عاممقالات

“نابليون يعفو عن ثوار القاهرة”

من أعمال المصور الفرنسي “بيير نارسيس جيران” (1774 – 1833)


كتب . د. ياسر منجى 

“نابليون يعفو عن ثوار القاهرة”، من أعمال المصور الفرنسي “بيير نارسيس جيران” (1774 – 1833)، وهي لوحة منفذة بالألوان الزيتية على القماش، رسمها “جيران” عام 1808، مستلهماً حَدَثاً تاريخياً وقع قبل حوالي عشرة أعوام من إنجاز هذا العمل الفني؛ وهو حَدَث اندلاع “ثورة القاهرة الأولى”، التي اشتعلت شرارتها ضد الفرنسيين في 20 أكتوبر عام 1798. واللوحة محفوظة حالياً بمتحف قصر “فرساي” Chateau de Versailles بفرنسا.


وتُعَدّ هذه اللوحة نموذجاً من نماذج الدعاية السياسية المُوَجّهة، التي تستخدم الفن كأداة لترويج مفاهيم لا تتطابق بالضرورة مع الحقائق التاريخية. وقد برع “نابليون” في استثمار هذا النوع من الدعاية البصرية، التي رَوَّج من خلالها صورة مثالية عن نفسِه، باعتبارِه بطلاً أسطورياً يتمتع بصفات النُبل والتَرَفُّع.


 كذلك كان لأمثال هذه اللوحات دورٌ كبير في التخفيف من أثر الإخفاق الاستراتيجي، الذي مُنِيَت به حملة “نابليون” على الشرق، إلى جانب التغطية على انتهاكاتٍ إنسانية متعددة، انتهجَها ضد عددٍ كبير من أبطال المقاومة الوطنية، الذين سجلوا مواقف مُشَرِّفة، في الصمود أمام جيش الحملة الفرنسية في مواقف مختلفة. 

ومن خلال هذه اللوحة وأمثالها، حاول “نابليون” الترويج لنفسِه بعد عودته لفرنسا، بِوَصفِه قائداً عسكرياً متحضراً، يتسامح مع خصومِه في ذروة انتصاره عليهم، وهو ما يختلف تماماً مع وقائع التاريخ، التي سَجَّلَت تنكيله بقادة “ثورة القاهرة الأولى”، وتصفيتهم جسدياً، برغم محاولة بعض رجال الدين للسعي لديه لإصدار أمر بالصفح عنهم.

وقد وصف المؤرخ الشهير “عبد الرحمن الجبرتي” (1756 – 1825) هذه الواقعة التي عاصر أحداثها بنفسِه؛ إذ سَجَّل بعض تفاصيلها في كتابِه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، موضحاً كيفية مراوغة “نابليون” للمشايخ في موضوع الصفح عن الثوار، وإيعازِه لبعض المشايخ الآخرين، من المُوالين له، بإصدار بيان صوري بالعفو، لم يُنشَر إلا عقب إعدام قادة الثورة ببضعة أيام. 



يقول “الجبرتي” شارحاً تتابُع هذه الوقائع: “وأصبح يوم الأربع فركب فيه المشايخ أجمع، وذهبوا لبيت صاري عسكر، وقابلوه وخاطبوه في العفو، ولاطفوه والتمسوا منه أماناً كافياً، وعفواً ينادون به باللغتين شافياً، لتطمئن بذلك قلوب الرعية، ويسكن روعهم من هذه الرَزِيّة، فوعدهم وعداً مشوباً بالتسويف، وطالبهم بالتبيين والتعريف، 


عمن تسبب من المُتَعَمِّمين في إثارة العوام، وحرضهم على الخلاف والقيام، فغالطوه عن تلك المقاصد، فقال على لسان الترجمان: نحن نعرفهم بالواحد […..] ثم أنهم فحصوا على المتهمين في إثارة الفتنة، فطلبوا الشيخ “سليمان الجوسقي” شيخ طائفة العميان، والشيخ “أحمد الشرقاوي”، و”الشيخ عبد الوهاب الشبراوي”، 


والشيخ “يوسف المصيلحي”، والشيخ “إسمعيل البراوي”، وحبسوهم ببيت البكري. وأما السيد “بدر المقدسي” فإنه تغيب وسافر إلى جهة الشام، وفحصوا عليه فلم يجدوه، وتردد المشايخ لتخليص الجماعة المعوقين فغولطوا. واتُّهِم أيضا “إبراهيم أفندي” كاتب البهار، بأنه جمع له جمعاً من الشطار، وأعطاهم الأسلحة والمَساوِق، وكان عنده عدة من المماليك المخفيين، والرجال المعدودين، فقبضوا عليه وحبسوه ببيت الأغا.


وفي يوم الأحد ثامن عشرة توجه الشيخ “السادات” وباقي المشايخ إلى بيت صار عسكر الفرنسيس، وتشفعوا عنده في الجماعة المسجونين ببيت الأغا وقائمقام والقلعة، فقيل لهم: وسّعوا بالكم ولا تستعجلوا، فقاموا وانصرفوا. وفيه نادوا في الأسواق بالأمان ولا أحد يشوِّش على أحد، مع استمرار القبض على الناس،


 وكبس البيوت بأدنى شبهة [……..] وفي ليلة الأحد حضر جماعة من عسكر الفرنسيس إلى بيت “البكري” نصف الليل، وطلبوا المشايخ المحبوسين عند صاري عسكر ليتحدث معهم، فلما صاروا خارج الدار وجدوا عدة كثيرة في انتظارهم، فقبضوا عليهم وذهبوا بهم إلى بيت قائمقام بدرب الجماميز […..] فلما وصلوا بهم هناك عروهم من ثيابهم، وصعدوا بهم إلى القلعة فسجنوهم إلى الصباح، فأخرجوهم وقتلوهم بالبنادق، وألقوهم من السور خلف القلعة، 


وتغيب حالهم عن أكثر الناس أياماً. وفي ذلك اليوم ركب بعض المشايخ إلى “مصطفى بك” كتخدا الباشا، وكلموه في أن يذهب معهم إلى صاري عسكر، ويشفع معهم في الجماعة المذكورين، ظناً منهم أنهم في قيد الحياة، فركب معهم إليه وكلموه في ذلك، فقال لهم الترجمان اصبروا ما هذا وقته، وتركهم وقام ليذهب في بعض أشغاله، فنهض الجماعة أيضاً وركبوا إلى دورهم.


وفي يوم الثلاثاء حضر عدة من عسكر الفرنسيس، ووقفوا بحارة الأزهر، فتخيل الناس منهم المكروه، ووقعت فيهم كَرشة، وأغلقوا الدكاكين وتسابقوا إلى الهروب، وذهبوا إلى البيوت والمساجد، واختلفت آراؤهم، ورأوا في ذلك أقضية بحسب تخمينهم وظنهم وفساد مخيلهم، فذهب بعض المشايخ إلى صاري عسكر، وأخبروه بذلك وتخوُّف الناس، فأرسل إليهم وأمرهم بالذهاب، فذهبوا وتراجع الناس وفتحوا الدكاكين […] ولعل ذلك قصدا للتخويف والارهاب خشية من قيام فتنة لما اشيع قتل المشايخ المذكورين وهو الأرجح.
وفيه كتبوا أوراقاً والصقوها بالأسواق، تتضمن العفو والتحذير من إثارة الفتنة،


 وأن من قُتِل من المسلمين في نظير من قُتِل من الفرنسيس [….] واستهل شهر جمادى الثانية بيوم السبت سنة 1213. [وفي ثامنه] كتبوا عدة أوراق على لسان المشايخ وأرسلوها إلى البلاد، وألصقوا منها نُسَخاً بالأسواق والشوارع، وصورتها “نصيحة من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونبرأ إلى الله من الساعين في الأرض بالفساد. 


نُعَرِّف أهل مصر المحروسة من طرف الجعيدية وأشرار الناس، حركوا الشرور بين الرعية وبين العساكر الفرنساوية، بعدما كانوا أصحاباً وأحباباً لسوية، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين، ونهبت بعض البيوت، ولكن حصلت ألطاف الله الخفية، وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش يونابارته، وارتفعت هذه البلية، لأنه رجل كامل العقل، عنده رحمة وشفقة على المسلمين، ومحبة إلى الفقراء والمساكين، ولولاه لكانت العساكر أحرقت جميع المدينة، ونهبت جميع الأموال، وقتلوا كامل أهل مصر، فعليكم أن لا تحركوا الفتن، ولا تطيعوا أمر المفسدين، ولا تسمعوا كلام المنافقين، ولا تتبعوا الأشرار، 


ولا تكونوا من الخاسرين سفهاء العقول، الذين لا يقرأون العواقب، لأجل أن تحفظوا أوطانكم وتطمئنوا على عيالكم وأديانكم، فإن الله سبحانه وتعالى يؤتى مُلكه من يشاء، ويحكم ما يريد، وتخبركم أن كل من تسبب في تحريك هذه الفتنة قُتِلوا من آخرهم، وأراح الله منهم العباد والبلاد، ونصيحتنا لكم أن لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، واشتغلوا بأسباب معايشكم وأمور دينكم، وادفعوا الخراج الذي عليكم. الدين النصيحة، والسلام”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock