شعر وحكاياتعام

(( دستور من خاطره )) …




قصة : مصطفى الحاج حسين .

-1-

استدعى الشّيخ ” عوض ” حفيده ” لطّوف ” ،

وطلبَ أن يجتمعَ بهِ على انفرادٍ ، وقفَ ” لطّوف “

أمامَ جدّهِ منقبضاً ، فلجدّه هيبة عالية .

تمعّنَ الجّدُّ بحفيدهِ بدقٌةٍ ، فأحسَّ ” لطّوف “

بالعريّ أمامَ نظراتِ الكهلِ الثّاقبة ،

واعتقد أنّ الجّدّ سوف يحاسبهُ على أفعالهِ

السّيّئةِ ، الّتي ذاعَ صيتها في كلّ مكان ، لكنّه قرّر أن

يكذّب كلّ التّهم الّتي سيواجهه بها جدّهُ . قال

الجّدّ :

– أَمَا آنَ لكَ أن تعقلَ يا ” لطّوف ” ؟ .

أطرقَ الحفيد برهةً ، ثمّ همس بصوتٍ مرتعشٍ :

– جدّي .. كلّ ماسمعته عنّي كذب وافتراء .

رمقهُ المسنُّ بنظرةٍ صارمةٍ ، وصاحَ :

– أنا أعرف كلّ شيءٍ عنكَ يا مقصوف العمر

.. فلا داعي للكذب .

تقدّمَ ” لطّوف ” خطوة من جدّهِ ، دمدمَ :

– صدّقني يا جدّي … أنا تبتُ منذ زمنٍ عن ارتكاب

المعاصي .

غابت الحدّة عن كلامِ المسنِّ ، تحوّلَ صوتهُ إلى

ما يشبه الهمس :

– أنا أريد مصلحتكَ يا ” لطّوف ” … إنّ ساعتي

اقتربت ، ويجب أن تأخذ عنّي الوكالةَ ، عليكَ أن لا

تضيّع هذا الجّاه ، كلّ النّاس سيكونونَ تحتَ

إمرتكَ ، فقط تعقّل ، وتطيلَ لحيتكَ ، وتبدأ بالتّردّدِ

على الجّامع .

قال ” لطّوف ” الذي أدهشه هذا القول :

– ولكن يا جدّي … أنا لا أصلح لها ، كلّ النّاس

فقدوا ثقتهم بي .

قذفَ المسنُّ سبحته من يدهِ ، وصفعَ ” لطّوف “

بنظرةٍ غاضبة :

– أنتَ لماذا لا تريد أن تفهمني ؟! .. قلتُ لكَ أطِل

لحيتكَ ، وتردّد على الجّامع ، وسرعانَ ما تعودَ إليكَ

ثقة أهل البلدة ، فأنتَ ابن أسياد ، من اليوم عليكَ

أن تجالسني كلّ يوم ، حتّى تتعلّم منّي كلّ شيء .

جلسَ قبالة جدّه الهرم .. وهتفَ :

– جدّي … أنا أفكّر أن أعمل في التّجارة .

حملقَ الجّد بحفيدهِ ، ثمّ أشاح وجهه

المتجعّد ، ذا اللحية البيضاء :

– أنتَ غبيّ .. عملنا يدرّ علينا ذهباً ، والتّجارة

قابلة للخسارة .

-2-

عندما ماتَ الشّيخ ” عوض ” ، كانَ

جميع أهل بلدة ” الباب ” ، يعرفونَ أنَّ حفيده “

لطّوف ” هو خليفته ، فقد منحه جدّهُ الوكالة ، أمام

كلّ النّاس ، في الجّامع ” الكبير ” ، بعد صلاة

الجمعة .

-3-

تماثلَ وجه ” حليمة ” للشفاء ، من الحروق

التي سبّبها إبريق الشّاي السّاخن يوم سقط فوقها ،

لكنّ الصّداع الهائل لم يفارقها ، بل كان يتضاعف

ويزداد كلّ يوم ، و ” حليمة ” تشكو من الألم

الفظيع ، تبكي ، وحين حازت على اشفاق الجّميع ،

قالت جدّتها ” الحاجّة ربّوع ” :

– علينا أن نعرضها على سيدي ” لطّوف ” فهو من

أولياء الله الصّالحين .

فوافق الأهل على كلام ” الحاجٌة ” ، وهكذا أمر الأبّ

ابنه ” مصطو ” أن يذهب إليه ، ويرجوه الحضور .

منذ اللحظة الأولى لدخول صاحب الكرامة

” لطّوف ” ، وبعد أن رمقَ ” حليمة ” بنظرة

مستعجلة ، أمر الجّميع بالخروج من الغرفة ،

فتركوه مع ” حليمة ” .

طلبَ منها الاقتراب منه ، امتثلت لأمره،

وضع يده على جبينها ، حدّق في عينيها الجزعتينِ ،

ثمّ حوّلَ يده إلى خدّها ، راحَ يتمتم بتراتيل مبهمة ،

عادت يده لتمسحَ رأسها ، طلبَ أن تخلعَ عنها غطاء

الرّأس ، ففعلت ، راحت يده تمسّد شعرها الفاحم ،

أخذت عيناه تشعّانِ ، زحفت كفّهُ إلى عنقها ،

تأوّهت ” حليمة ” إذ ما زالت آثار الحروق تؤلمها ،

أخذت أصابعه تجسّ كتفيها ، تصاعدت دمدماته :

– هل يؤلمكِ رأسكِ ؟ .

هزّت ” حليمة ” رأسها . عاد يسأل :

– هل مازالت الحروق توجعكِ ؟ .

كرّرت هزّ رأسها ، لكنّ دموعاً حبيسة من عينيها بدأت

تنسكب .

– إذاً مرّغي خدّيكِ بلحيتي .

دهشت ” حليمة ” ، تراجعت ، فصاح :

– مرّغي خدّيكِ بلحيتي ، فلحيتي مباركة .

اقتربت الصّبية ، لصقت خدّها بلحيته

الضّخمة ، ألصق لحيته بخدّها أكثر ، امتدّت

يداه تحتضنانها بعنفٍ ، اشتعلت النّار داخل

عينيهِ ، دمدم :

– هل يؤلمكِ نهداكِ ؟ .

بهزّةٍ من رأسها نفت هذه المرّة .

– هل أنتِ متأكّدة ؟ .

– نعم .

ارتفع صوته المبحوح أكثر :

– هل أنتِ متأكدة ، أم أنّكِ لا تعرفين ؟ .

همست ” حليمة ” والخوف قد سيطر على كامل

وعيها :

– لا أعرف .

امتدّت يده إلى نهدها ، تكوّرت كفّه فوقَ النّهد ،

راحت أصابعه تهرس الحلمة ، كان النّهد ليّناً ، دمدمَ

لاهثاً :

– افتحي أزرارك

تطلّعت إلى عينيهِ الجّمريتين .

– قلتُ لكِ افتحي الأزرار .

برزَ الصّدر الأسمر ، هرعت أصابعه المتوقّدة

لترفع الحمّالتينِ ، تأرجح النّهدان ، قبضت يداه

الحارتانِ الرّاعشتانِ عليهما ، اندلعَ اللهب من عينيهِ ،

وسرت رجفة في أوصالِ ” حليمة ” ، حينَ أبصرت

وجهه يستطيل ، همهمَ وقد اتّسعَت بُحّة صوته :

– هل توجعكِ بطنكِ ؟ .

– لا .

رفعَ يديهِ عن النّهدينِ ، قال بحزمٍ :

– تمدّدي أمامي .

تجرّأت ” حليمة ” لتهتفَ :

– قلتُ لكَ بطني لا توجعني .

تراجعَ قليلاً .. تجهّمَ وجههُ ، تقلّصت لحيته وهو

يصيح :

– قلتُ لكِ تمدّدي .

تمدّدت كالميّتةِ ، أسرعت يداه لتكشفانِ الثّوب عن

بطنها :

– لماذا ترتدينَ هذا البنطال ونحنُ في عزِّ الصّيف ؟! .

لم تردّ عليه ، لم ينتظر جواباً ، تابع رفع الثّوب ،

ظهرت البطّن ، تسابقت أصابعه لترفعَ القميص

الدّاخلي ، يده تتمرّغ على البطن وتعصرها ، عَلَت

دمدماتهِ :

– اللهمّ أرح هذه البطن من الألمِ ، اللهمّ أرفق بهذه

النّعومةِ ، بهذهِ الفتنةِ والسّرّةِ ، اللهمَّ مكّني من

مساعدتها فهي عزيزة على قلبي ، اطرد عنها الجّنّ

والعفاريتَ والشّياطينَ والأبالسة أولاد الكلب ، اللهمّ

أرحني ، فأنتَ على كلِّ شيءٍ قديرٍ .

-4-

عندما سمحَ صاحب الكرامة لأهلِ “حليمة “

بالدّخولِ ، كانَ قد تربّعَ فوقَ اللبّاد وأمسكَ

بسبحتهِ .

سارعت ” زهيدة ” أمّ ” حليمة ” لتسأله :

– خير ياسيدي الشّيخ .. طمّني ؟ .

ابتسم صاحب الكرامة ، نظر صوب ” حليمة “

المصفرّة الوجه ، دمدمَ بعد أن مسّدَ بأصابعهِ على

لحيتهِ المشوبةِ بالاحمرار :

– إن شاء الله خير ، لا تقلقي ، أريد فقط أن أبيّت لها

حتّى أتأكّدَ ، لهذا أريد شيئاً من أثرها ، كي أضعه

تحت مخدّتي عند نومي .

قالت ” الحاجّة ربّوع ” :

– أعطهِ غطاء رأسكِ يا ” حليمة ” .

هتفَ صاحب الكرامة بسرعةٍ :

– غطاء الرّأس لا يصلح ياحاجّة .

سألَ الأب باستغراب :

– لماذا لا يصلح ياسيدي ؟! .

– لأنّني أريد قطعة من ثيابها تكون ملتصقة بجسدها

أكثر ، ويجب أن تكون هذه القطعة نجسة ، لأنَّ

الجّنَّ والعفاريتَ والشّياطينَ والأبالسةَ ، أعوذُ بالله

من ذكرهم ، لا يوجدونَ إلّا في الأماكنِ النّجسة

والحقيرة .

صاحت ” زهيدة ” الأمُّ :

– دستور من خاطرهم ، دستور يارب .

تابعَ صاحب الكرامة طلاسمه :

– أريدُ سروال ” حليمة ” ، فهو أفضل شيء

( للاستخارة ) .

-5-

قبلَ وصول صاحب الكرامة ، طلبت ” حليمة “

من أمّها وجدّتها أن لا يتركاها معه بمفردها .

قالت الأمُّ :

– صاحب الكرامة لا يقبل أن يتركنا معكِ .

وأجابت الجّدة ” ربوع ” :

– الجّن والعفاريت والشيّاطين والأبالسة ، لا.يظهرونَ

لسيّدنا ” لطوف ‘ إن بقينا معكِ .

أرادت ” حليمة ” أن توضّح لهما عن أسباب

مخاوفها :

– سيّدنا ” لطّوف ” له حركات مخيفة .

صاحت الحاجّة ” ربّوع ” :

– طبعاً .. هكذا هم أولياء الله الصّالحين .

أدركت ” حليمة ” أنَّ أمّها وجدّتها ، لا تستوعبانِ ما

تقصد ، لذلك عزمت على المكاشفة أكثر :

– سيّدنا ” لطوف ” ليس من أولياء الله الصّالحين .

ذعرت الأمّ من هذا القول ، وصاحت الجّدةُ

بغضبٍ شديدٍ :

– اللعنة عليكِ ياقصوفة العمر ، أنتِ تكفرينَ

، قولي دستور من خاطره ، قبل أن يفلجكِ ،

سيّدنا ” لطّوف ” ابن أسياد .

اقتربت الأم من ابنتها ، وهمست :

– قولي ياابنتي أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم ، ولا

تعودي لمثل هذا الكلام ، سيّدنا ” لطّوف ” قادر على

مسخنا جميعاً .

-6-

وصل صاحب الكرامة ” لطّوف ” ، كان

عابساً ، استقبلته العائلة بقلقٍ وخوفٍ ، قال الأب “

الحاج كرمو السّعال ” :

– خير ياسيدي .. لقد شغلتَ بالنا ؟! .

تضاعفَ تجهّم وجهه ، تسارعت أصابعه بتلقّفِ

حبّات سبحتهِ ذات المئة حبّة ، نظر صوب ” حليمة “

المنكمشة على نفسها عند الزّاوية ، وقال :

– ” حليمة ” أحرقت ابن ملك الجّنِّ الأحمر ، يوم

أسقطت براد الشّاي ، وهذا ما جعل ملك الجّنّ

الأحمر ، أن يقسم على الانتقام من ابنتكم ” حليمة

” .

ندّت عن ” حليمة ” صرخة ذعر رهيبة ،

توجّهت إليها الأبصار بفزعٍ عظيم ، كانت ترتعش ،

فكأنَّ خوفها قد تحوّلَ إلى موجةِ بردٍ قارسة .

صاح صاحب الكرامة وهو يحاول النّهوض :

– اخرجوا من الغرفةِ ، ودعوني أعالجها .

مصطفى الحاج حسين .
حلب

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock