بقلم فاطمة عبدالحميد
لم تعد حوادث القطارات جديدة علي مسامعنا، ولم نعد نتأثر كلما سمعنا عن حادث جديد مثلما كنا نتأثرفى السابق، كثرة تكرار الحوادث خلال السنوات الماضية جعلت اﻷمر فينا شبه معتاد عليه، ليس شرطاً لذلك أن تكون ماتت مشاعرنا أو تبددت أحاسيسنا، ولكن كل شيء في مستهله كان صعباً أو حتي كان مستحيلاً، بمرور اﻷيام مع التكرار يصبح شبه عادي.
بين حين وحين؛ وكل حين ليس بالكثير، تمر علي آذاننا جملة شبه مكرره قلبا وقالباً، “حادث قطار مروع يسفر عن ضحايا ومصابين”، أتذكر في يوم من اﻷيام كنت ﻻ أزال طفلة، لا أملك النضج الكافي ﻷعي معني كلمة حادث قطار مروع، لكنني أتذكر الموقف جيداً، فأكثر شئ يذكرني به أنه كان قبل يوم أو يومين من عيد اﻷضحي، وكنت كأي طفلة تستعد ليوم العيد، كان أقصي ما يشغل بالي في تلك اﻷيام هو (لبس العيد الجديد)، وكيف أقضي يوم العيد؟، وماذا أشتري بعديتي؟، ومع من سألعب؟، وهل سأشتري عروس..أم أدخر أموالي ﻷثبت ﻷبي أنني اﻵن أصبحت كبيرة، ولم أعد أعتني باللهو واللعب.
لكن وسط زحام تلك اﻷفكار التي كانت تشغل بالي، وﻻ أحمل هما لشئ سواها، إهتز قلبي ﻷنباء محزنة، عندما سادت أخبار حادث قطار الصعيد، ورغم أنني علمت أن هناك حادث، وأن هناك أشخاص قد ماتوا، سرحت بمخيلتي للحظات، وبدأ عقلي يفكر، هل كان هناك أطفال داخل ذلك القطار؟، وإذا كان القطار به أطفال هل ماتوا؟، أم أبائهم؟، أم أمهاتهم؟، هل هناك طفلة مثلي تنتظر اﻵن أخاها ليلعبا معا؟، فماذا لو هلك في تلك الحادثة؟
وقتها لم أعد أشعر بأي شئ سوي أنني ﻻ أريد اﻹحتفال بالعيد، ﻻ أريد لبسي الجديد، ﻻ أريد أن ألعب وألهو، لكن رغم تلك المفارقة التي حدثت مابين نصف ساعة والنصف اﻷخر، اﻻ انني لم أستطع تفسير تلك اﻻحاسيس، ولم أتمكن من القائها من ذاكرتي والعودة للتفكير بالاستمتاع بحلول العيد ثانيةً.
فكانت تلك الحادثة هي أول حادثة لقطار تمر علي ذهني وأذني، وأتذكر وقتها شعوري جيداً، رغم كوني طفلة لم يتعدي عمرها الـ6 سنوات، ثم مرت اﻷيام وجاء حادث، فحادث، فحادث، الي يومنا هذا، بعد أن سمعت عن حادث قطار البحيرة، وسبقه حادث قطاري اﻻسكندرية، ومع كل حادث تمر أبشع القصص والحكايات، فكم من جندي مقاتل بعد غيابه لتأدية الخدمة العسكرية سالت دمائه علي قضبان سكة حديد، وكم من عريس تنتظره عروسه، ولكن انتظارها يطول ليزف وحده الي الجنة، وكم من أم ألقت برضيعها في اﻷشواك رحمة به من يقطع لحمه ويتناثر، وكم من أب له أسرة كانت تنتظره علي أحر من الجمر فغاب وهلك فسقط معه عمود البيت، فاﻷمر أصبح مزعجا.
وأكثر ما يزيد ازعاجي بعد كل هذا كوننا إعتدنا، ولكن “ما باليد حيلة”.
ويظل في النهاية الصراخ، يبقي البكاء، يخلد الضجيج، وتستمر الشكوي الي السادة المسؤلين، فيرحل مسئول، ويأتي مسئول، وما بين كل مسئول ومسئول، حادث تغيب معه العقول، ويحل الدمع والنواح والذبول، وتبقي شكوانا الي من ليس لنا سواه، مع بقاء نفس السؤال المتكرر المستهلك المعروف إجابته لكننا نظل نردد نفس السؤال، إلي متي تبقي أرواحنا أرخص ما تملكه تلك ألارض؟، متي سيرتوي ترابها ويكتفي من دمائنا؟، الي متي سيظل شريط السكة الحديد قبر لكل من يقصده سبيلاً؟!!!!.