بقلم: الدكتور محمد حسن كامل رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب باريس
البحر …….
بحربكل المفاهيم والأبعاد و الأعماق والمحارات والحوريات والحكايات , والعجائب والغرائب …البحر سر الأسرار ….ذاكرة العصر لكل الأعمار
حينما أقف على شاطئ البحر , أشعر أني أقف على كفء لي أو أكثر .
البحر لي سفر وترحال ومتعة وخيال
أرسم على رمال الشاطئ حلمي
هذا الحلم ربما تضيع معالمه مع أول موجة تقبل شفاة الشاطئ .
بيني وبين البحر مشاكسة ومباغتة
يداعبني وهو ينصت لي حينما أبوح بمشاعري ليسترها في ثقوب صخوره المتناثرة في كف الزمن .
هو الصديق الذي يحفظ السر ويكفكف الدمع , وهو الذي يصغي لكل أفراحي وأتراحي
أرى في البحر صداقة بعراقة وأناقة وثقافة ولياقة ولباقة .
جدارية حوارية بيني وبينه , تنهيدة قلب , يرد عليها هدير الامواج بكل حب .
وسفر أبدي بعيد يحط رحاله خلف حدود الشمس وهي تغيب تحت أهداب الليل .
البحر عنوان لكل الثورات , عنوان للحرية , للوداعة , للحب , للفراق , للعناق , للقاء
البحر يحمل كل المتناقضات .
ما أروع أن يهدأ البحر ….!!
وما أعظم أن يثور
وربما يجور
في البحر المسجور
وكانت البداية , تحكي الحكاية .
كان نحيل الجسد قصير القامة أسمر البشرة من حدة الشمس, حاد الذكاء هادئ النفس يهوى صيد الأسماك , بل كان يتبارى مع أترابه من الصبية في إبراز تلك الموهبة .
في كل صباح من أيام العطلة الصيفية , مع خيوط النور الأولى كان يقصد تلك الصخرة العالية التي كانت تنتحر لديها الآمواج العاتية على شاطئ مدينته الإسكندرية بالقرب من منزله بأمتار قليلة .
تلك الصخرة التي نقش عليها أحلامه , حتى اكتظت ثقوبها بتلك الآحلام ,فكم حاول مرات عديدة , أن يقف على أطراف أصابع قدميه , محاولاً إطالة قامته القصيرة , لعّله يرى ما وراء تلك الأمواج , أو يرى آشباح الناحية الأخرى من الشاطئ , بعيدا عند خط الأفق , وقد أوشكت شمس الدنيا على الرحيل , وهى تجر ذيلها من الشفق الأحمر , وكأنها عروس في ليلة الزفاف , ورويدا رويدا بدا يختفي ذاك القرص الأحمر على حياء في كف الزمن ليعلن قدوم دولة الليل .
علّمته هوايته الصبر وتحدي الأمواج والتأمل , والإعتماد على النفس منذ نعومةأظافره , وفي طريق العودة إلي منزله , كان يحث الخُطى حتى يلتقي بآصحابه وأترابه , الذين كانوا يقضون شطراً من الليل في الحديث عن السفر ولو بالخيال , وكان السفر لفرنسا نصيب الأسد في تلك الحلقات من ليالي السمر في السبعينات من القرن المنصرم , حيث كانت قوافل الطلبة تقصد فرنسا , في مواسم جمع العنب في الجنوب الفرنسي , والعودة بداية العام الدراسي محملين بالهدايا والملابس ومصاريف الدراسة للعام كله , ومعهم قصص لا تُعد ولا تُحصى تؤكد على محاولة تحقيق الذات .
ولو في الخيال أذكرُ إحداها وقد سمعتُها ألاف المرات مع اختلاف بطلها أو الراوي .
أن أحد الشباب المصريين سافر إلى فرنسا , والتقى بشقراء فرنسيه جميلة ونشأت بينهما قصة حب , وتبين بعد ذلك أنها بنت الخواجة (( بيجو )) صاحب أكبر مصنع للسيارات في فرنسا . لقد تزوجت المسكينة في الخيال ألاف المرات وبيني وبينكم الخواجة (( بيجو )) لم يرزقه الله بالبنات……!!!!
آحلام مبعثرة هنا وهناك تصلح للعديد من أفلام السينما .
أما صاحبنا صياد السمك بسنارتة البسيطة , كان يستمد حلمه من خيوط أخرى نُسجت في أقصي صعيد مصر , في عزبة كيلو في الرابع عشر من نوفمبر 1889 , وعلى بعد أمتار من مغاغة بمحافظة المنيا , ويلتقي بصاحب هذا الحلم الذي تحدى الصعاب , المتمرد العنيد الذي نقش أسمه في صدر التاريخ , رغم كل الصعاب التي تجاوزها ليبصر ما لا يبصره الآخرون كان حُلمه, ذاك الصبي الذي عاش مع الأيام مرات عديدة , لقد حاول أن يتلمس معالم الطريق من عميد الأدب العربي الدكتور (( طه حسين )) الذي تربع علي عرش كيانه ووجدانه , ولا غرو في ذلك وقد صوّر
الحياة مجسّدة ملونة بكل إ نفعالات الفكر المعاصر , والحياة والمجتمع , بل يدخل في عالم السياسة وقيادة الأمة , وإتخاذ القرار , ذاك الفذ العبقري الذي شحذ في نفس صاحبنا كل الطاقات والهمم , ليوضح له علامات الطريق , ولم يكن يعلم أن الأيام سوف تجمعه بنجله الدكتور (( مؤنس طه حسين )) في حفل اليونسكو بباريس للإحتفال (( بمئوية طه حسين )) من الميلاد , في الوقت الذي غافلته المحافل الأدبية في مصر .
بدأ صاحب السنارة ينسج حُلمه من الكُتّاب , وسيدنا , والعريف , ونعال التلاميذ البالية , والشاعر , والربابة , وقاضي المحكمة , وحفظ القرآن , والأُلفية , وإلتحاقه بالأزهر , وحصوله علي درجة الدكتوراة الأولي في الجامعة المصرية في 14 مايو 1919, وحصوله في نفس العام علي دبلوم الدراسات العليا في اللغة اللاتينية .
تابع صاحبنا قصة الحب العذري بين طه وسوزان , حينما سمعها وهي تقرا مقطعا من شعر (( راسين )) فأحب طه نغمات صوتها وعشق طريقة إلقائها , وقد تذكر قول بشار بن برد : (( والأذن تعشق قبل العين أحيانا ))
تأثر صاحبنا بهذا الحب العفيف , وحاول أن يرى فتاة أحلامه مثل سوزان بجمالها وثقافتها , وذكاءها الحاد , وإحساسها المرهف , حاول مرات ومرات أن يراها في صفحة الماء وهو يلُقي بسنارته , وقد تحول الماء إلي شاشة سينما فقرر أن يحقق حلمه بين ضفتي المتوسط .
عليه أن يتعلم الفرنسية , ويدرس تاريخ فرنسا وجغرافيتها , أمامه الكثير والكثير ولكنه لم يملكْ سوى أوراقه وأقلامه وأحلامه , ليخوض تجربة حقيقة في بلاد الجن الملائكة وعاصمة النور باريس
كيف حقق ذلك ….؟
انتظرونا في الحلقة القادمة