عام

اغتيال طفولة

اغتيال طفولة





        قصة : مصطفى الحاج حسين .


        تسلّق جدار المدرسة ، قفز إلى باحتها ،


ودخل صفّ ( سامح ) ، من النّافذةِ


المكسورة ، وفي الصّفّ كان بمفرده ، شعر


بالفرحة تجتاحه ، جلس على المقعد ،


واضعاً يديه أمامه ، مستنداً على المسند ،


دار على المقاعد ، وجلس الجّلسة ذاتها ،


وجد قطعة ( طباشير ) ، فأسرع نحو


السّبورة ، وبدأ يرسم خطوطاً كثيرةً ،


خطوطاً لا معنى لها ، فكثيراً ما كان يسأل


والديه ، عن سبب حرمانه وشقيقته


( مريم ) من المدرسة ، فتأتيه الأجوبة غير


مقنعة . والده يقول :


        ـ نحن أسرة فقيرة ، والمدرسة مكلفة ،


وأنا كما تراني .. عاجز عن إشباع بطونكم .


        ـ وكيف أدخل عمّي ( قدور ) أولاده


إلى المدرسة ، وهو فقير مثلك ؟!.


        ـ عمّك لا يعرف عواقب الأمور ، غداً


ترى ، سوف يضطرّ إلى سحبهم ، حين يعجز


عن دفع النفقات .


        ويتابع الأب كلامه ، كأنه يزفّ إليه


بشرى :


        ـ غداً سأبعث بكَ إلى الشّيخ ( حمزة ) ،


ليحفّظكَ القرآن الكريم .. وهذا خير بألف


مرّة من المدرسة .


وتحاول أمّه جاهدة ، أن تقنعه لتخفّف عنه


حزنه :


        ـ حفظ القرآن عند الشّيخ ( حمزة ) ،


سينفعك في الدّنيا والآخرة ، أمّا المدرسة


فلا تعلّمكَ إلّا كلمتي بابا وماما .


        ومن شدّة تلهفه وإلحاحه ، فقد تقرّر


أخيراً ، ذهابه لعند الشّيخ ، ولقد اجبر أمّه ،


على خياطة صدّارة ، تشبه صدّارة


( سامح ) ، وعطفاً على بكائه المرّ ، اشترى


له أبوه محفظة جلدية ، ودفتراً صغيراً مثل


( سامح ) .


        بات ليلته وهو في غاية السّعادة ، لم


يغمض له جفن ، كان يتحسّس صدّارته


التي ارتداها ، ومحفظته بمحتوياتها التي


تشاركه الاستلقاء في فراشه القطني . أمّا


أحلام اليقظة ، فقد بلغت أوجها في


مخيّلته ، الواسعة الخصوبة :


        ـ  سأتعلم .. مثل ( سامح ) ،


سأتحدّاه .. وأكتب على الجّدران اسمي ،


واسم ( مريم وسميرة ) وسأكتب بابا وماما


ودادا ، وسأحفظ الأرقام .. وأنا في الأصل


أعرف كتابة الرقم واحد ، تعلمته من


( سامح ) ، كلّ ما عليّ أن أمسك بالقلم ،


وأضغط بالقوة ، راسماً خطاً من الأعلى إلى


الأسفل ، وسأرسم قطتي أيضاً ، ودجاجات


جارتنا ، وحمار خالي ، وسيّارة رئيس


المخفر ، التي يخافها الجّميع .. والطّائرة


التي تطير كلّ يوم من فوق دارنا .. سأرسم


كلّ شيء يخطر لي ، القمر ، الشّمس ،


النّجوم ، والعصافير ، والكلاب ، الأشجار


العالية ..نعم سأفعل كلّ هذا ، لأنّ ( سامح )


ليس أفضل منّي .. فأنا أطول قامة ، وأقوى


منه ، عندما نتعارك .  


        وشعّت ابتسامته في الظّلام ، تقلّب


في فراشه .. متى سيأتي الصّباح ؟.. هكذا


كان يتساءل .. ثمّ أرسل نظرة إلى 


( مريم ) النائمة ، وتحسّر من أجلها ، لقد


بكت طويلاً ، لأنّ والدها لم يشترِ لها


صدّارة ومحفظة ، وحسدَ نفسهُ لأنَّه ذكر ،


فقد قال لها أبوها ، بعد أن ضربها :


        ـ يامقصوفة الرقبة أنتِ  بنت .. ما


شأنكِ بالمدرسة ؟!.


         سأطلب من شيخي أن يعطيني كتباً


كثيرة ، أكثر من كتب ( سامح وسميرة ) ،


سأقوم بتجليدها ، ولن أسمح لأحد أن


يلمسها ، سوى أختي ( مريم ) ، ف ( سامح


وسميرة  )  لا يسمحان لنا بلمس كتبهما ..


في كلّ يومٍ سأنال من شيخي علامة


الجيد ، ولن أكون كسولاً مثل ( سميرة ) ،


وفي آخر السّنة سأنجح بتفوقٍ ، وسأوزّع


السّكاكر على كلّ اهل الحارة ، ولن أطعم


وَلَدَي عمّي ، إلّا سكّرة واحدة لكلٍّ منهما ،


مثلما فَعَلَا معي ، يوم نجح إلى الصّف


الثاني ، لا فرق بيني وبين ( سامح )


سوى أنّه ينادي معلمه ( أستاذ ) وأنا أناديه ،


كما أوصاني أبي ، سيدي الشيخ . 


        في الصّباح الباكر ، وعلى صياح


الدِّيَكَة ، قفز ليوقظ أمّه ، وبسرعة غسّل


وجهه ويديه ، سرّح شعره الخرنوبي ، حمل


حقيبته الزّرقاء ، وانطلق رافضاً تناول


الزعتر والشّاي .


        دفع للشيخ ذي اللحية الغزيرة ،


الضاربة للبياض ، ربع ليرة أجرة الأسبوع


سلفاً ، وجلسَ على الحصيرةِ المهترئة ، بين


كومة الأولاد ، المتجمّدينَ أمام أنظار الشّيخ


المسنّ ، وماكاد يستقرّ في مكانهِ ، حتّى


أمره الشّيخ بالوقوف ، تأمّله بعينيه


الحمراوين ، فارتعش الفتى ، لكنّ الشّيخ لم


يشفق عليه ، بل صرخ :


        ـ ما هذا الذي تلبسه ؟.. صدّارة !!.. ما


شاء الله ، هل قالوا لكَ إنّ عندي مدرسة ؟!.


        انهارت أحلامه ، لم يكن يتوقّع مثل


هذه المعاملة ، من الشّيخ ، أراد أن يسأله


عن رفضه الصدّارة والحقيبة ، غير أنّ


الخوف عقل لسانه ، فجلس دامع العينين .


        ما أسرع ما ينهال الشّيخ ، على


الأطفال بعصاه الغليظة ، وما أكثر ما يغضب


ويثور ويحملق بعينيه المرعبتين ، وخلال


أيّام قليلة تعرّض ( رضوان)  إلى عدّة


( فلقات ) منه .


        وذات يوم .. ضبطه الشّيخ وهو يقتل


ذبابة بيده ، فانهال عليه ضرباً ، غير عابئ


بصرخاته ودموعه ، وأخيراً أصدر أمره الحازم :


        ـ التقط الذّبابة .. وضعها في فمكَ ..


وابتلعها .


        لم يخطر في باله مثل هذا الأمر ،


بكى .. توسّلَ .. ترجّى .. تضرّع .. سَجَدَ


على قدمَي الشّيخ يقبلهما ، استحلفه بالله


وبالرسول ، فلم يقبل .. تناول الذبابة ..


ووضعها في فمه ، فوجد نفسه يتقيّأ فوق


الحصيرة ، وضجّ الأولاد بالضحك ، بينما


جنّ جنون الشّيخ ، فأخذ يضربه ، ويركله ،


كيفما اتفق ، وبعد أن هدأت ثورته ،


واستطاع أن يلتقط انفاسه بانتظام ، أمره


أن يغسل الحصيرة والأرض . ولمّا كان


صنبور الماء قريباً من الباب ، أسرع وفتحه


وأطلق العنان لقدميه المتورمتين .. فأرسل


الشّيخ على الفور ، من يطارده من الأولاد ..


ولكن هيهات أن يلحق به أحد .


        في المساء .. عاد والده من عمله ،


تعشّى مع أسرته ، ثمّ أخبرته زوجته ، بأمر


هرب ( رضوان ) من عند الشّيخ ، فعضب


الأب وصفع ابنه ، وأمره أن يذهب معه ، في


الصّباح لعند الشّيخ ، ليعتذر منه ، ويقبّل


يده الطّاهرة .


        ـ الولد ابنك .. لكَ لحمهِ ولنا عظمه . 


قال الأب للشيخ .


        ـ لا عليكَ يا أبا ( رضوان ) . الولد امانة


في رقبتي .  قال الشّيخ مكشراً عن اسنانه


المنخورة .


        في ذلك اليوم ، لم يضربه الشّيخ ،


واكتفى بتحذيره ، أنذره من الشّيطان الذي


بداخله .


وبعد أيام وقع (رضوان)  في ورطة جديدة ،


  وكان الوقت ظهراً ، وكان الأولاد محشورينَ


مثل السُّجناء ، في غرفة صغيرة ، لا نافذة


لها ، كانوا يتصبّبونَ عرقاً ، شعر الطّفل


برغبةٍ لا تقاوم في النّوم ، رغبة اشدّ من


قسوةِ الشّيخ ، ولا يدري كيفَ سها ، وعلى


حين غرّة جاءته ضربة قوية على باطنِ


قدمهِ ، فانتبه مذعوراً ، وقبل أن يسبقه


بكاؤه ، تبوّل في مكانه .. بلّل ثيابه


والحصيرة ، وتعالت الضّحكات من رفاقه ،


وفقد الشّيخ رشده ، فلم يجد ( رضوان )


وسيلة للتخلص سوى بالبكاء ، بكى كثيراً ،


حتى رأف الشّيخ بحاله ، وسمح له


بالإنصراف . 


        منذ ذلك اليوم ، أطلق عليه الأولاد ،


لقب (  الشخاخ ) .


        من أجل هذا ، أخذ يجامل الأولاد ،


ويكسب ودهم ، ولكنهم كانوا أوغاداً ،


ازدادوا استهتاراً به ، وبمحاولاته لكسب


صداقتهم ، وكان الجميع يتشجّعون


وينادونه ( الشخاخ ) ، إلى أن جاء يوم من


أيام الشتاء ، عجز فيه والده ، عن دفع ربع


الليرة ، فطرده الشّيخ ، وكان سعيداً ، لأنه


أصبح حرّاً .. بعيداً عن الشيخ والأولاد .


        وجلس ( رضوان )  يترقّب موعد طرد


( سامح وسميرة ) من المدرسة ، لكنّ عمه


لم يعجز حتّى الآن ، عن دفع النفقات ، كما


كان يتوقّع والده ، وذلك أمر كان يحزّ في


قلبه .


        صار يتسلق جدران المدرسة ، ليراقب


( سامحاً ) الذي يلعب في الباحة ، مع رفاقه


أثناء الفرصة ، صار همّه الوحيد المراقبة


والانتظار ، لحين انصراف ( سامح ) . وكم


كان يلذّ له أن يأخذ الحقيبة من ( سامح ) ،


ليحملها عنه ، متخيّلاً نفسه تلميذاً ، وفي


تلك الأيام ، كان كثيراً ما يمرّ بالقرب من


أحد المعلّمينَ ، ليرمي عليه السلام ، وكم


كان يشعر بالغبطة ، حين يردّ عليه ، ظانّاً أنّه


أحد تلامذته . 


         وما كان يضايقه .. سوى الآذن ( أبي


لطّوف ) ، الذي يهرع ليلاحقه بدرّاجته ،


كلّما رآه متسلّقاً على الجدار ، وكم كان


يتهدّده بأنّه سيعيده إلى بطن أمّه إن


أمسكه .. وفي إحدى المرّات ، استطاع


الإمساك به ، كان قد تسلّق الجدار ، وجلس


يطوّح بقدميه ، ينظر إلى التلاميذ ، وبينهم


( سامح ) ، وهم ينفّذون درس الرياضة ..


كان يراقبهم بشغف ، وهم يركضون خلف


الكرة ، وكانت الغيرة تأكل قلبه الصغير ..


وفجأة أمسك ( أبو لطّوف ) بقدمه .. وأخذ


يشدّها بقوة ، و ( رضوان ) الذي صعقته


المفاجأة ، يصرخ .. وهو يحاول التملّص ،


غير أنّ (  أبا لطّوف ) تغلّب على الصغير ،


فارتمى بين ساعديه ، حيث قاده إلى غرفة


المدير ، غير منتبه إلى تبوّل الطفل في


ثيابه . 


كان المدير بديناً وأعورَ ، صارماً أشدَّ قسوةً


من الشّيخ ( حمزة ) ، أمره بالجلوس على


الكرسي ، وأمسك الآذن به ، ورفع له


قدميه ، وانهال المدير عليه ضرباً بلا رحمة ،


ولم يتركه إلّا بعد أن أقسم الطفل ، آلاف


المرّات ، بأنّه لن يعود إلى تسلّق الجدار ،


حمل حذاءه وخرج على رؤوس أصابعه ،


ينتحب بغزارة وحرقة ، في حين  كانت


(  كلابيّته )  تقطر بولاً .


        منذ ذلك اليوم ، أقلع ( رضوان )عن


تسلّق الجّدار ، صار يكتفي بالدَّوَران حول


سور المدرسة ، ينتظر ( سامحاً ) ، وكان


يصيخ السّمع ، إلى صوت المعلم ، المتسرّب


من النّافذة ، وهو يهتف :


        ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ .


فيردّد التلاميذ خلفه :


        ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ .


        وكان يتناهى إلى سمعه ، صوت


( سامح ) من بين الأصوات ، أو هكذا كان


يتخيّل ، فيشعر بالحسد .. ويتمنّى ذلك


اليوم ، الذي سيعجز عمّه ( قدّور ) عن دفع


النّفقات .  في تلك اللحظة فقط ،


سوف يسخر من ( سامح ) ، لأنّ هذا لن يكون 


متميّزاً عنه بشيء ، بل على العكس :


        ـ ( فأنا أطول منه قامةً .. وأشدّ قوةً ..


واسرع ركضاً .. وكذلك أنا أمهر منه في


قذف الحجارة ، ولا أخاف الاقتراب ، من


الحمير والكلاب  .) .


        في أحد الأيام ، سقط العمُّ ( قدّور )


عن ( السّقالة ) ، في أثناء عمله في البناء ،


وانكسرت رجله ، فاستبشر خيراً ، ولكن


زوجة عمّه ، سرعان ما خيّبت رجاء


( رضوان ) إذ باعت قرطها وخاتمها


الذهبيّين ، حتى تتمكَّن الأسرة من متابعة


العيش ، وكم كره زوجة عمّه هذه .. بل إنّه


يكرهها من قبل ، لقد رضع كرهها من أمّه ،


التي تطلق عليها .. لقب ( أمُّ عُصٍّ ) ، لأنّها


نحيلةً جدّاً ، في حين كانت أمّه ضخمة


جداً .. وهكذا توالت الأيّام ، وهو يمضي


نهاره ، حول سور المدرسة ، في انتظار


( سامح ) إلى أن جاءت العطلة الصّيفية …


         فينتهزَ الفرصة ، ويقتحم صفّ


( سامح ) ، ويرسم على السّبّورة خطوطاً


كثيرة ، حتّى انتابته حالة انفعالية ،


غريبة .. فأخذ يكسّر المقاعد والنوافذ ..


ولم يخرج من الصّف ، إلّا بعد أن رفعَ


( كلّابيَّتهُ ) ، وتبوّل فوقَ طاولة المعلّم ..


وأمامَ السّبّورَة .


   
                         مصطفى الحاج حسين .
                                   حلب …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock