شعر وحكاياتعام

الهريرة


بقلم حنان عبد الحليم
هل احبك لأنك جميل ؟؟ هل أحبك لأنك سليم ؟؟ هل أحبك لانك شاب ؟؟هل أحبك لأنك غنى ؟؟

سألت نفسها وهى تنظر الى المرأة المسجاة على سرير العناية الفائقة تتدلى من فهما  ومن ذراعها  الخراطيم . وقد علا وجهها صفرة الموت و خبت من ملامحها معانى الحياة ..
الاشارة , انها فى انتظار اشارة اقلاع رحلتها الأخيرة من يد القدر . ذهاب بلا عودة

التصقت بجدار الغرفة الصغيرة الباردة , وهى تبحث عن ابعد بقعة وأكثرها ظلمة داخل الغرفة , كى ترتل كل ما حفظت من آيات  القرآن ليخفف الله عن هذة المرأة سكرات الموت , وكى تدارى دموعا اشبه بصنبور خرب أصبح  خارج السيطرة ..

قطة صغيرة ( هريرة ) مسجاة بلا حول ولا قوة غائبة عن الوعى .. مئات الآلاف من الجنيهات يدفعها أبناؤها نظير تلك الرقدة البائسة .. عيون دامعة وقلوب حزينة , ارتحلت من الرجاء لليأس والتسليم بقضاء الله .

هريرة ….تصغير هرة اأو   قطة .. تلك هى المرأة الفولاذية التى ترقد أمامها . والدة صديقتها التى لم تسمح لها يوما بمقابلتها شخصيا لانها ترفض مشاعر الشفقة .. ولا تسمح لأحد غريب برؤيتها بعد أن خبا النور عن عينيها الجميلتين  ,

لم تتفهم المنطق فى أبدا, بل وجدت تناقضا عظيما فى ان تعبش هذة السيدة تربى ابنائها بفكر متفرد , لا يقوى على تنفيذه الوعاظ وهو  “أن تحب ابتلائك وأن تفخر به ” كن فخورا وليس كسيرا “

كم من واعظ وعظ , ولم يقو على التنفيذ .. لكنها نفذت دون وعظ  ولقنت أبنائها ذلك دون ضجة ..من هنا شعرت بالتناقض وتسائلت : لماذا تختبئ من الأغراب ان كان عليها ان تحب ابتلائها و تعجبت من ان امرأة كهذه تقيم اعتبارا لما يسمى “الشفقة”

لقد استيقظت يوما على انصراف زوجها وحبيبها عنها لان بصرها اخذ فى الذهاب تدريجيا الى ان اصابها العمى ..

قصة حب طليعية , نشأت فى اروقة منظمات الشباب فى ستينيات القرن العشرين , توجت بالزواج وانجاب اربعة اطفال , ثم سفر مع الزوج لأوروبا بعد ان حصل على عمل فى مؤسسسة صحفية شهيرة .

سارت الحياة بشكل جيد بينهما ..استطاعت خلالها ان تتعامل مع عيوب شخصيتة بقوة شخصيتها و غالبت افكارة  التى تراها غير مقبولة عن الدين  بان غرست  العكس فى نفس ابنائها . كل ما لنا من الله والى الله . فهو الاول والآخر.
.الى أن اصاب المرض عينيها  وبدأ هو فى التباعد التدريجى عنها , و تحول الحب الى هجر مع غياب بصرها . لم تعاتب ولم تنوح بل زهدت فيمن زهد فيها , ورفعت رأسها.. وشخصت بعينين لا تبصران الى السماء تستمد منها العون .. بلا دموع

حصلت على الطلاق  وعادت الى الوطن .

وقفت تتأمل المرأة  من جديد و هى تسمع آيات القرآن تنساب من فم صديقتها , ابنة هذة المرآة , مخلتطا ببكاء هستيرى ورجاء الى الله ان يبقى لها أمها .. هكذا حتى دون حراك .

لم تتعجب رغم انانية الفكرة فكلنا نكره التراب , ولا أحد يرغب ان يدس أحبابة فيه رغم القناعة بحتميه  ذلك , رغم اليقين برحمة الموت مقارنة بالعجز . لكنه الخوف من الافتقاد .فكلنا  نشتاق لمن رحلوا و نخشى المزيد

الحب .. هذة الفتاة تحب أمها بعجزها الأول وهو عدم قدرتها على الابصار ,  وبعجزها الثانى الذى تحول الى عجز كلى

ولكنها  توقفت كثيرا عند ذلك الرجل الذى كان زوجها  , والذى استطاع ان يجعلها وابنائها يعيشون رحلة تخلى عظمى ..  تخلو من الرحمة .

و أخذت فى تأمل مفهومه للحب .. قبل ان تتأمل مفهومه للأبوه ..

ما الحب؟؟ ان يكون حبيبى جميلا,  صحيحا , غنيا , شابا ؟؟

اذا ما تغير  هذا , ذهب الحب ؟؟؟

إذا ما معنى حبيبى ؟؟؟  انه حبيبى وكفى . قد أرى تفاصيله فى البداية فى مرحلة اللاعجاب أو التوافق , لكن بمجرد ان أصبح حبيبا .. تحول  الى كيان وليس شخصا تحول الى جزء من الروح .. هل يتأمل أحدنا روحه ؟؟ هل يرى بها عاهة ؟؟ هل يدرك انها شاخت ؟؟ وإن أدرك هل يلقى بها فى عرض الطريق أم يحتضنها ليعيد لها بهائها ؟؟؟..وهل هناك ما يؤلم الانسان اكثر من روحه؟؟؟

يبدو ان معنى الحب لدى البعض إما غائب أو معيوب ..أو ان البشر انفسهم ينجذبون  لصفات جسدية  متصورين انه الحب .

ما أغربه من رجل  هل لوجود أمثاله فى الحياة معنى ؟؟, لقد تخلى ايضا  عن ابنائه, ورفض الانفاق عليهم  بعد أن عادوا للوطن ولم يعقب . فقط هكذا

لم تفهم  ,, و لم يحاول أحد  افاهمها  . فالمصيبة فى حاجة  لحل وليس لعقد جلسات نقاش..

قررت المرأة ان تأخذ زمام الأمر , و أن تستدين من قريب  لها غنى على أن تسجل كل ما أخذت من مال ,  وأن تجعل ابنائها يستغلون لغتهم الاجنبية  للعمل فى اسرع وقت بجانب الدراسة .. وأن يكونوا فخورين بذلك و ان تشعرهم بالتميز . ونجحت

وسددوا ديونهم , وعملوا,  وتحولوا الى اغنياء ينفقون على رقدتها مئات الاللاف , و آدمين يرجون الله ان يبقيها لهم بأى ثمن .. ونافعين للمجتمع بدلا من أن يكونوا مشردين أو مجرمين .

المفارقة العظيمة فى قصة هذة المرأة انها لم تتزوج , والاعظم انه هو ايضا لم يتزوج ولم يتخذ خليلة رغم ان مبادئه تسمح بذلك

علمت ابنائها الحمد , لا الشكوى وأن العطاء ليس شرطا للغنى ,, فمن ضن عليهم بحقهم كان غنيا لكنه لم يفهم معنى العطاء أو الواجب , كما لم يفهم الحب .. ووضعت قاعدة عامة فى الحياة هى : لا تكره

كانت تتحدث عن ذكريات جميلة عاشتها معه , لم تترك الالم والخذلان ينسخان ما عاشت من حلاوة , تشبثت بما هو جميل وتعاملت مع العقبات بقوة وفخر واصرار على تجاوزها  ولم تر فى كف بصرها عجزا .. بل العجز هو الا تتحرك من مكانك , العجز  هو الا تفكر .

انتهى وقت الزيارة : قالت الممرضة على استحياء لانها تدرك انها قد تكون الاخيرة

وانصرف الجميع  ..الابناء والاصدقاء

و جاء الانفراد بين الصديقتين مليئا بالحزن والابتهال , الابنه تبكى برجاء والصديقة تبكى بيأس و تعرض خدماتها من كل نوع كمن يحاول منع  انجراف سيل ببضعة احجار .. ولكن الاحجار هى كل ما يملك فعليا .و علا صوت رنين الهاتف المحمول و نظرت الابنة ووجدت ابيها هو المتصل للاطمئنان على الام ,, لم تتمالك الصديقة نفسها من ارهاف السمع رغم وجعها الانسانى و رغم انها ليس من طبعها تتبع أخبار الآخرين .. لكن هذا الرجل يبقى حالة فى حاجة لدراسة .

لم يطل بها الحال ووجدت صديقتها تسلمها الهاتف قالئلة : بابا يريد ان يشكرك

وقبل أن تفيق من معنى الشكر وجدت صوت الرجل ينساب عميقا رخيما , وجدته متناسبا مع خيالها لشخص باع كل ما هو غالى بقلب ميت .. وميزت حزنا وفقدا , بل ضياعا لم تصدقه اذناها .. شكرها على ما قدمت من مساندة لابنتة و أمها

وردت بما هو متعارف عليه ..

كل لحظة مفاجأة .. شكرها على مساندة من تخلى عنهم و جعلهم عرضة لابشع السياريوهات ؟؟ ثم ما هذا الصوت؟؟ ما هذه اللهجة  ؟؟  لم يكن ما بينها وبين الرجل حوار ,  بل دوى جبل ينهد ..

ليلة حالكة مليئة بالعظة .. تللك هى الليلة الأخيرة فى حياة الهريرة ..

فوجئت بأن الزوج السابق قادم  من أوربا لألقاء نظرة الوداع عليها , كما فوجئت انه يصلى ليسأل الله أن ينفذها ..

قالت الابنه ابى يصلى من اجل امى .

عجزت الكلمات أمام جحود البشر , انما لا تعمى الابصار وانما تعمى القلوب التى فى الصدور ..

الم ير انها قلب وعقل وسند الا لحظة الفقد ؟؟؟ لم ينعم الله عليه بالاحسان وفت ان كان الاحسان مجديا  وتركه يبتهل ويصلى ويندم وقت الوداع ..

تركها وحيدة وهو يعلم انه حب حياتها , وترك ابنائه ووهو يعلم انه سندهم  الوحيد .. وجاء بعد أن تدرب الجميع على فقده  ولم يعد يجدى أو يواسى .

ورحلت الهريرة بعد ساعات قليلة آمنة ,, ووصل هو بعد الرحيل . صلى مع من صلى ودفن مع من دفن .

هناك بشر قطع الله  منهم الرجاء , فلا يصلون الا بعد اسدال الستار .

طوبى لمن أحب وغرس الحب
مدير قسم الادب و الشعر
علا السنجري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock