شعر وحكايات

قصة قصيرة “هو و سلوى و القدر” بقلم عثمان مكاوي

أنهى أوراقَ انتدابِهِ إلى محافظةِ القاهرةِ و استلمَ نشرةً من إدارةِ مصرَ الجديدةِ التعليميةِ، ليسلمَهَا إلى مديرِ مدرسةِ الخنساء الإعداديةِ المشتركة، استقلَّ تاكسي، العرقُ يتفصدُ من جبهتِهِ، أدخلَ يدَهُ في جيبِهِ و أخرجَ منديلا ورقيا، و راحَ يمسحُ العرقَ، كان مبهورا و هو يتنقل بنظراتِهِ على البناياتِ الإسمنتيةِ العاليةِ ، والمحالِ الفخمةِ، و جمالِ السيداتِ و الفتياتِ المراهقاتِ العائداتِ إلى بيوتهِن .

بعدَ مرورِ نصفِ ساعةِ تقريبا، توقفت عجلاتُ التاكسي أمامَ بوابةِ المدرسةِ ، الساعةُ تقتربُ من الثانيةِ عشرةَ ظهرا.

وقف أمامَ البوابةِ و طرق بابَها، فنظر العاملُ إليهِ من مربعٍ صغيرٍ مجوفٍ بالبابِ الحديديِ، و سألَهُ عن شخصيتِهِ، فأخبره أنهُ جاءَ ليستلمَ عملَهُ في المدرسة.

فرحبَ به .. ثم أخبره عن هويتِهِ و هو يصافحُهُ

أنا عمك رشوان العامل في المدرسةِ

ابتسمَ و قال له

ممدوح إخصائيُ المكتبةِ الجديدُ .

و لم يعطِ فرصةً للعامل أن يديرَ معه حوارا و سأله

فين أوضة المدير؟

من الطرقة دي امشي معايا يا بيه .

و تبعه ممدوح كطفلٍ يسيرُ خلفَ والدِهِ في طريقهِما إلى المدرسة.

طرق بابَ المديرِ و أفسحَ الطريقَ لممدوح و هو يخاطبُ المديرَ

أستاذ ممدوح الإخصائي الجديد للمكتبة.

وقف المديرُ يصافحُهُ و هو يشيرُ له بالجلوسِ على المقعدِ.

أبرزَ ممدوح نشرةَ الانتداب له.

فقال المديرُ معاتبا

– نضايفك الأول و بعدين نشوف موضوع الانتداب.

تراخى ممدوح فوق الكرسي ،شملتُهُ راحةً و طمأنينة.

و رد في بشاشة

– شكرا أستاذ.. و صمت برهة؛ لأنه لم يعرف بعد اسمه و لام نفسَهُ انَّه لم يسألْ رشوانَ عن ذلك.

ابتدرَهُ المديرُ حين شعر بخجلِهِ

– أنا أستاذ عبد المسيح ، و نظرا لصعوبة الاسم ينادوني بأستاذ عبده أو مستر عبده و راح يضحك.

فأسرع ممدوح

– تشرفتُ بك أستاذ عبده

و أشار المديرُ لرشوان أن يحضرَ مشروبا باردا

و بعد أن رشفَ ممدوح المشروب

نادى المديرُ على السكرتير في الحجرةِ المجاورةِ لحجرتِهِ

فأقبل مسرعا .. قال له

– دي نشرة انتداب أستاذ ممدوح عايزك تاخدها و تعمل له إقامة عمل من النهارده .

ثم أخبرَ ممدوح قائلا

المدرسة هنا كبيرة و ذات كثافة عددية ، و عدد فصولها خمسة و عشرين فصلا

و عندنا إخصائية مكتبة تانية، أستاذة سلوى من أصول صعيدية مثلك.

و تمنى لو استراحا في العمل معا، و أن يحثا الطلاب على القيام بالأنشطة و القراءة و الاطلاع .

و قال أيضا

– أستاذة سلوى ، إنسانة بشوشة و طيبة و مجتهدة لكن كنا في حاجة لإخصائي ثاني يساعدها ، لسه مستأذنة قبل ما توصل إنت بنص ساعة بعد ما اخدت إجازة اعتيادي لمدة أسبوع، بنتها مروة هتعمل عملية زايدة بكرة .

– ربنا يشفيها

في الذروة، عاد ممدوح إلى الشقةِ التي يتشاركُ احدى غرفِها مع واحدٍ من الطلبةِ الجامعيين، لم يجدْ أحدًا بالمسكن، و هدوءٌ يزينُ له الجلوسَ في الشرفةِ؛ ليتأملَ حركةَ الشارعِ ، تذكَّرَ سلوى، ليست سلوى إخصائية المكتبة، لكنها سلوى الطالبةُ التي أحبها و كانت زميلةً له في كليةِ الآدابِ و في نفس قسمِ المكتبات، فتاةٌ جميلةٌ يتناسقُ طولُها مع وزنِها، خمريةُ البشرةِ ، روحُها جذابةٌ، أحبَها دونَ أن تشعر بذلك، لم يقوَ على إخبارها بمشاعرِهِ نحوَها، يكفيِهِ أن ينظرَ إليها فقط، كان خجولا ، لا يمتلكُ جُرأةَ أن يفصح لها عن مشاعرِهِ نحوَها، و كان يتلصصُ عليها من بعيدٍ دون أن يُشعرَها بذلك، يصعدُ سُلَمَ الكليةِ وراءَها، تجولُ عيناه تبحثُ عنها في المدرجِ إلى أن تهتدَيا إليها، كانت مرحةً تحلقُ بين الطلبةِ كفراشةٍ مبتهجةٍ، الجميع يخطبُ ودَها، ، و أقصى أمانيهُم أن تُهزَ لهم رأسَها أو تبديَ لهم ابتسامةً باردةً، و قلةٌ منهم نجحت في أن تُلقي لها تحيةً فتبتسمُ و تردُ، ما عدا ممدوح لا يجرؤ أن يجريَ معها أي حديث حتى لو كان مجردَ إلقاءِ التحيةِ لها، بعدما رأها ذاتَ يومٍ في السنة الأولى و هي تكيلُ الشتائمَ و السخريةَ لطالبٍ في نفسِ القسمِ حاولَ التوددَ إليها دون رغبتِها، منذ ذلك الوقتُ و ممدوح يحاولُ الابتعادَ عنها ، لكنه لا يقوى على فعلِ ذلك. و تذكر أيضا عندما أتاح له القدرُ دخولَ مطعمٍ فوجدها هناك بمفردِها، حينها حاول أن يستجمعَ قواهُ ليحدثَها و يُلقي على مسامعِها مشاعرِه و أحاسيسِه تجاهِها، لكنه لم يستطعْ ذلك، و بعد أن فرغتْ من الطعامِ غادرتْ المطعمَ دون أن تنتبهَ إليه، أنَّبَ نفسَهُ حينذاك و نعتَها بالجبنِ، و أنَّ الحبَ الحقيقيَ هو الجرأةُ و الإقدامُ، مضت أربعةُ أعوامٍ لم يتحدث خلالهم إليها، يسترقُ أخبارهَا من أحاديثَ الطلبةِ و الطالباتِ دون أن يلفِتَ انتباهَهُم أنه يسعى لذلك.

و قد تبِعَها في أحدِ الأيامِ ليعرفَ عنوانَ بيتِها و راحَ كلَ مساءً يسيرُ وراءَها بحذرٍ حتى نجحَ في معرفةِ عنوانِها بشارعِ يسري راغب ، و تمنَّى لو التقتْ عيناه بعينيها السوداوين ، و يرى شعرَها كله لا خصلةً هاربةً من تحت طرحتِها.

في بدايةِ الأسبوعِ الثاني لاستلامِهِ العمل، صعد ممدوح كعادتِهِ إلى حجرةِ المكتبةِ. و ألقى تحيتَه و هو يخفضُ رأسَه.

فاطلقتْ أستاذة عفاف ضحكةً ساخرةً و قالت

– أستاذ ممدوح انت مكسوف و لا إيه ، انت مش عارف دي مين ؟

دي الأستاذة سلوى زميلتك في المكتبة.

فأدار وجهَهُ ناحيتَها ، مدت يدَها له و مد هو الآخرُ يدَهُ لها و التقتْ عيناهُ بعينيها، و كأن تيارا من الشوقِ قد سرىَ من عينيهِ لعينيها ،و تمنَّى لو تذكرتُه، ثم جلسَ بالقربِ منها يستعيدُ ثلاثةَ عشرَ عاما مضت، و راح يفكرُ و يهمس لنفسِهِ

– أخيرا سلوى جنبي و كمان أمسك ايدها و عنيا في عنيها، لما تمشي عفاف هحكي لها كل حاجة عن مشاعري ناحيتها هقول لها كل كلمة كنت عايز أقولها من سنين طويلة.

و استطرد يهمس

لا لا مينفعش دي خلاص بقيت زوجة و أم و بالتأكيد بتحب زوجها و أولادها . و صمت طويلا مستسلما للقدر

ثم عاد يدندن في شجن

و عايزنا نرجع زي زمان

قول للزمان ارجع يا زمان

و هات لي قلب لا داب و لا حب

و لا انجرح و لا شاف حرمان

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock