شعر وحكاياتعام

إغتيال طفولة ( 2 )


إغتيال طفولة ( 2 )


قصة : مصطفى الحاج حسين .

إغتيال طفولة ( 2 )



استيقظتُ على ركلةٍ قويَّةٍ ، وقبل أن

أفتح عينيّ النّاعستين ، انهمرت دموع الوجع منهما

، أحسست أنّ خاصرتي قد انشقّت ، وقد هالني أن

أبصر أبي ، فوق رأسي وعيناه تقدحان شرراً ،

نهضت مسرعاً ، يسبقني صراخي وعويلي ، فأنا لم

أدّر بعد ، لماذا يوقظني بهذه الطّريقة ؟!.

ـ ساعة .. وأنا أناديكَ .. فلا تردّ ياابن الكلب !.

أنا أعرف أبي ، إنّه قاسٍ ، بل هو أشدّ قسوة

وفظاعة من الشّيخ ( حمزة ) نفسه ، ومن مدير

المدرسة ( الأعور ) ، فكثيراً ما كان يضربني

وشقيقتي ( مريم ) ، لأتفه الأسباب ، حتّى أمّي ، لم

تكن تسلم من ضربه وشتائمه .

ـ إلى متى ستبقى ( فلتاناً ) مثل الحمار ، لا عمل ..

ولا صنعة ؟!.

شهقتُ بعمقٍ ، تنشَّقتُ مخاطي ، بينما راحت

عينايّ تستوضحان وجهَ أمّي ، المنهمكة باحضار

الفطور ، عن معنى مايقوله أبي ، قرأت أمي

تساؤلاتي .. فاقتربت منّي :

ـ ستذهب لتشتغلَ مع أبيكَ .. صار عمركَ عشر

سنوات .

وكدّت أصرخ :

ـ أنا لا أقدر على حمل الحجارة ، ولا أحبّ

صنعة العمارة .

غير أنّ نظرات أبي الحادّة ، أرغمتني على الصّمت ،

فبقيت مطرق الرّأس ، أشهق بين اللحظة والأخرى .

قال أبي بقسوة :

ـ تحرّك .. اغسل يديك ووجهك .. وتعالَ تناول

لقمة قبل أن نذهب .

خرجتُ من الغرفة ساخطاً ، شعرتُ بكره نحو

أبي ، وصنعة البناء ، فهي متعبة ، تعرّفتُ عليها ،

عندما كنتُ أذهبُ إليه أحياناً ، فأرى ما يعانيه ،

الذين يشتغلون بهذه المهنة .. من تعبٍ .

تبعتني أمّي إلى المطبخ ، وما كدّتُ أسمع وقع

خطاها ، حتى التفتُّ نحوها صارخاً :

ـ أنا لا أريد الشّغل .. في العمارة .

فردّت بصوت يكاد يكون همساً ، بينما كانت تضع

إصبعها على فمها :

ـ لو لايّ .. لأخذكَ من سنتين معه إلى الشّغل ..

الآن لم يعد يسمع كلامي .

ـ لكنّني لا أقدر على حمل الأحجار ، وأسطلة

الطّين .

قلتُ بحنق شديد . قالت أمّي :

ـ وماذا أفعل ؟.. أنت تعرف أباكَ .. لا يتناقش .

وقبل أن أردّ على أمّي .. انبعث صوت أبي صارخاً ،

من الغرفة :

ـ ألم تنتهِ من التّغسيل يا أفندي ؟!.. تأخّرنا ..

صار الظّهر .

أسرعتُ إليه .. متظاهراً بتجفيف وجهي .. وخلال

دقائق ، ازدردتُ عدٌة لقيمات .

ونهضتُ خلفه ، حزيناً .. يائساً .. بي رغبة

للبكاء ، سرت خلفه ، أراقب حركات ( شرواله)

المهترئ ، وسترته ( الكاكيّة ) الممزٌقة ، تأمّلتُ

( جمدانته ) السّوداء العتيقة .. تمنّيتُ في تلك

اللحظة ، ألَّا يكونَ هذا الرّجل أبي ، كلّ شيءٍ فيهِ

كريهٍ ، حتّى شكله ، عمّي ( قدّور ) أجمل من

والدي ، والأهمّ من هذا كلّه ، أنّه لا يرتد ( شروالاً ) ،

ولا يرغم ابنه ( سامح ) ، الذي يكبرني بسن

ونصف ، على عمل لا يحبّه ، لقد أدخله و ( سميرة )

المدرسة ، وهو يشتري لهما الألعاب ، ويعاملهما

بمحبّةٍ ودلالٍ .

كنتُ أحدّثُ نفسي طوال النهار ، وأتمنّى

التّملّص من أبي ، وكلّما ازداد تعبي ، أزددتُ حنقاً

عليه ، الشّمس حارقة ، والأحجار ثقيلة ، وسطول

الإسمنت قطّعت أصابعي ،الغبار يخنقني ، والعرق

الدّبق يغسّلني ، وأبي لا يتوقّف عن العمل ، ولا

يسمح لعمّاله بقسطٍ من الرّاحة ، في الظّل .

أفكّر في ( سامح ) ، وكيف سيضحك عليّ ،

إذا علم بقصّة عملي ، إنّه الآن في المدرسة ، بعد

قليلٍ ينصرف ، ينطلق باحثاً عنّي ، لكنّه لن يجدني ،

سيجوب الأزقّة .. يسألُ أمّي وإخوتي .. وسيفرحه

الخبر ، فأنا الآن عامل بِناء ، في ثيابٍ وسخة ،

بالتّأكيد سيفتّش عن أصدقاءٍ غيري ، يشاركونه

اللعب .

لن ننصرف قبل أن تغيب الشّمس ، ما أطول

النّهار ، وما أبعد المغيب !.. لن يتسنّى لي أن أرتاح ،

وألعب قليلاً مع ( سامح ) .

اللعنة على الإسمنت والحجارة ، اللعنة على

الغبار الذي أمقته ، أكاد أختنق ، رأسي انصهر من

شدّة الحرّ ، والعرق يتصبّب منّي بغزارة ، عليّ أن

أستحمّ فور عودتي .

هذا اليوم أقسى أيّام حياتي ، لم يكد أن يأذّن

العصر ، حتّى شعرتُ أنّ قوايَ خارت تماماً ، وجهي

تحوّل إلى كرةٍ ملتهبة ، محمرّة ، رأسي أشتدّ به

صُداع حادّ ، يدايَ ، قدمايَ ، ظهري ، رقبتي ،

أكتافي ، عينايَ ، كلّ خليّة في جسدي الهزيل ،

تؤلمني ، وتوجعني ، وتصرخ ، وتبكي ، وتمنّيتُ أن

أموتَ في تلك اللحظة ، أو أتحوّل إلى كلبٍ ، أو

قطّةٍ ، تذهب حيث تشاء ، تستلقي في الظلّ ..

وتغفو . وتساءلت :

ـ يا إلهي .. ألا يتعب أبي ؟!.. هل هو من

حجر ، أم من حديد ؟!.. إذاً لماذا لا يستريح ؟!..

ولو خمس دقائق فقط ، خمس دقائق يا أبي لن

تخرب الدّنيا .. شعرتُ نحوه ببعض الإشفاق ،

وبشيءٍ كبيرٍ من الغضبِ والحقد .

ـ إن كنتَ لا تهتمَّ بنفسك ، أو بعمّالك ، فأنا

تعبت ، ولم أعد قادراً على تسلّق السّلّم ، ولن أقوى

على حمل سطل الإسمنت ، أنا منهار أيّها الأب

القاسي ، هل تسمعني ؟!.. ألا تفهم !.. اعلم إذاً

بأنّني سوف أهرب .. وأترككَ مع عمّالكَ الأغبياء ،

هل باعوكَ أنفسهم ، من أجلِ بضعِ ليراتٍ ؟!.

ونمت فكرة الهرب في رأسي ، صارت تتغلغل

إلى خلايا جسدي المنهكة فتنعشها ، لكنّني سرعان

ما جفلتُ .. من فكرتي هذه ، وصرتُ أرتجف . غير

أنّ الفكرة الرائعة ، كانت قد سيطرت عليّ تماماً ،

سأهرب .. وهناك في البيت ، سوف تتشفّع لي

أمّي .. سأهرب .. وسأرجو والدي أن يعتقني من

هذه الصنعة ، وكبرت الفكرة في ذهني ، سألجأ إلى

عمّي ( قدّور ) ، أتوسّل إليه أن يساعدني ، في إقناع

أبي ، بالعدول عن قراره ، بالعمل معه ، سأعمل في

أيّ مهنة يشاء ، فقط لو يتركني أنجو من هذه

الصّنعة ، وعزمتُ أن أنفّذ الفكرة .. وتمكّنت من

الفرار ، دون أن يلحظني أحد ، فقد تظاهرتُ بأنّني

أريد التّبوّل ، ولمّا أدركتُ ، أنّني ابتعدت عن أنظار

والدي وعماله ، أطلقتُ العنانَ لقدميَّ المتعبتين .

لم أكن أدري ، أنّ أبي سيترك عمله ، ويتبعني

إلى البيت ، فور اكتشافه أمر هروبي ، فما كدّتُ

أطلب من أمّي ، أن تعدَّ لي لقمة ، ريثما أغتسل

وأغيّر ثيابي ، حتّى اقتحم أبي الدار ، والغضب

يتطاير من وجهه المغبرّ ، هجم عليَّ ، وفي يده

خرطوم ، صارخاً في هياج :

ـ هربت يا ابن الكلبة !.

يبست الكلمة في فمي ، تراجعت ، انبعث

صوتي ضعيفاً باكياً :

ـ تعبت يا أبي .. لم تعد لي قدرة على

الشّغل .

انهمرت على جسدي العاري سياط الخرطوم ،

عنيفة ، قويّة ، ملتهبة ، ودونَ أدنى شفقة ، أو

رحمة ، وانتشرت صرخاتي في كلّ الاتّجاهات ،

حادّة عالية :

ـ دخيلك يا ( يوب ) ، أبوس رجلك ..

أبوس ( صرمايتك ) .

وأسرعت أمّي نحوي ، ارتمت على أبي بضخامتها ،

وقفت حائلاً بيننا ، فما كان منه ، إلّا أن صفعها بكلّ

قوّة :

ـ ابتعدي .. من أمامي يا بقرة .

تلقّت لسعات الخرطوم ، صارخة :

ـ خير !!!.. يا ( أبو رضوان ) .. ماذا فعل

الولد ؟؟؟.

ـ ابن الكلب …هرب من الشّغل .

تابع ضربي ، ولم تنجُ أمّي من ضرباته أيضاً ، فكانت

سياطه تقع على جسدها الضّخم ، المترهّل ، بينما

وقفت أختي ( مريم ) في أقصى الزّاوية ، جزعة ،

مرعوبة ، تبكي بصمتٍ ، وترتجف ، تدفّق الدّم من

فمي بغزارة ، فارتمت أمي على قدميه ، ترجوه ،

تتضرّع له ، تتوسّل ، تتذلّل ، تبكي بجنونٍ ، وبحرقةٍ

وألمٍ :

ـ أبوس ( قندرتك ) توقّف ، عن ضربه ، الولد

انتهى .

هجم عليّ من جديد ، رفعَ يدهُ عالياً ، وهوى

بها على رأسي ، فطار الشّرر من عينيَّ ، وصرختُ

صرخةً ارتجّت لقوّتها أرجاء الغرفة ، صاحت

( مريم ) بذعرٍ شديدٍ ، وبينما كنتُ أتدحرج ، ممرّغاً

بدمائي ، شقّت أمّي ثوبها ، اندلق على الفور

نهداها الهائلان ، تناهى إلى أسماعنا ، صوت خبطات

قويّة على الباب .. رمى أبي الخرطوم ، وخرج

ليفتح .

انحنت أمّي تغسلني بدموعها ، ضمّتني إلى

صدرها العاري ، وبكت بحرقة ، وهي تدمدم :

ـ أسفي عليك يا ( رضوان ) … أسفي عليك يا

ولدي .

دخل عمي ( قدّور ) ، فأسرعت أمّي إليه باكية :

ـ دخيلك .. الولد راح من يدي .

زعقَ أبي .. متهدّج الصّوت .. وكان النّدم قد تسلّل

إلى صوته :

ـ ادخلي .. غرفتك يا مقروفة الرّقبة .. واستري

صدرك .

لكنّها لم تأبه بكلامه :

ـ الولد بحاجة إلى دكتور يا ( قدّور ) *

مصطفى الحاج حسين .
حلب .إغتيال طفولة ( 2 )

قصة : مصطفى الحاج حسين .



استيقظتُ على ركلةٍ قويَّةٍ ، وقبل أن

أفتح عينيّ النّاعستين ، انهمرت دموع الوجع منهما

، أحسست أنّ خاصرتي قد انشقّت ، وقد هالني أن

أبصر أبي ، فوق رأسي وعيناه تقدحان شرراً ،

نهضت مسرعاً ، يسبقني صراخي وعويلي ، فأنا لم

أدّر بعد ، لماذا يوقظني بهذه الطّريقة ؟!.

ـ ساعة .. وأنا أناديكَ .. فلا تردّ ياابن الكلب !.

أنا أعرف أبي ، إنّه قاسٍ ، بل هو أشدّ قسوة

وفظاعة من الشّيخ ( حمزة ) نفسه ، ومن مدير

المدرسة ( الأعور ) ، فكثيراً ما كان يضربني

وشقيقتي ( مريم ) ، لأتفه الأسباب ، حتّى أمّي ، لم

تكن تسلم من ضربه وشتائمه .

ـ إلى متى ستبقى ( فلتاناً ) مثل الحمار ، لا عمل ..

ولا صنعة ؟!.

شهقتُ بعمقٍ ، تنشَّقتُ مخاطي ، بينما راحت

عينايّ تستوضحان وجهَ أمّي ، المنهمكة باحضار

الفطور ، عن معنى مايقوله أبي ، قرأت أمي

تساؤلاتي .. فاقتربت منّي :

ـ ستذهب لتشتغلَ مع أبيكَ .. صار عمركَ عشر

سنوات .

وكدّت أصرخ :

ـ أنا لا أقدر على حمل الحجارة ، ولا أحبّ

صنعة العمارة .

غير أنّ نظرات أبي الحادّة ، أرغمتني على الصّمت ،

فبقيت مطرق الرّأس ، أشهق بين اللحظة والأخرى .

قال أبي بقسوة :

ـ تحرّك .. اغسل يديك ووجهك .. وتعالَ تناول

لقمة قبل أن نذهب .

خرجتُ من الغرفة ساخطاً ، شعرتُ بكره نحو

أبي ، وصنعة البناء ، فهي متعبة ، تعرّفتُ عليها ،

عندما كنتُ أذهبُ إليه أحياناً ، فأرى ما يعانيه ،

الذين يشتغلون بهذه المهنة .. من تعبٍ .

تبعتني أمّي إلى المطبخ ، وما كدّتُ أسمع وقع

خطاها ، حتى التفتُّ نحوها صارخاً :

ـ أنا لا أريد الشّغل .. في العمارة .

فردّت بصوت يكاد يكون همساً ، بينما كانت تضع

إصبعها على فمها :

ـ لو لايّ .. لأخذكَ من سنتين معه إلى الشّغل ..

الآن لم يعد يسمع كلامي .

ـ لكنّني لا أقدر على حمل الأحجار ، وأسطلة

الطّين .

قلتُ بحنق شديد . قالت أمّي :

ـ وماذا أفعل ؟.. أنت تعرف أباكَ .. لا يتناقش .

وقبل أن أردّ على أمّي .. انبعث صوت أبي صارخاً ،

من الغرفة :

ـ ألم تنتهِ من التّغسيل يا أفندي ؟!.. تأخّرنا ..

صار الظّهر .

أسرعتُ إليه .. متظاهراً بتجفيف وجهي .. وخلال

دقائق ، ازدردتُ عدٌة لقيمات .

ونهضتُ خلفه ، حزيناً .. يائساً .. بي رغبة

للبكاء ، سرت خلفه ، أراقب حركات ( شرواله)

المهترئ ، وسترته ( الكاكيّة ) الممزٌقة ، تأمّلتُ

( جمدانته ) السّوداء العتيقة .. تمنّيتُ في تلك

اللحظة ، ألَّا يكونَ هذا الرّجل أبي ، كلّ شيءٍ فيهِ

كريهٍ ، حتّى شكله ، عمّي ( قدّور ) أجمل من

والدي ، والأهمّ من هذا كلّه ، أنّه لا يرتد ( شروالاً ) ،

ولا يرغم ابنه ( سامح ) ، الذي يكبرني بسن

ونصف ، على عمل لا يحبّه ، لقد أدخله و ( سميرة )

المدرسة ، وهو يشتري لهما الألعاب ، ويعاملهما

بمحبّةٍ ودلالٍ .

كنتُ أحدّثُ نفسي طوال النهار ، وأتمنّى

التّملّص من أبي ، وكلّما ازداد تعبي ، أزددتُ حنقاً

عليه ، الشّمس حارقة ، والأحجار ثقيلة ، وسطول

الإسمنت قطّعت أصابعي ،الغبار يخنقني ، والعرق

الدّبق يغسّلني ، وأبي لا يتوقّف عن العمل ، ولا

يسمح لعمّاله بقسطٍ من الرّاحة ، في الظّل .

أفكّر في ( سامح ) ، وكيف سيضحك عليّ ،

إذا علم بقصّة عملي ، إنّه الآن في المدرسة ، بعد

قليلٍ ينصرف ، ينطلق باحثاً عنّي ، لكنّه لن يجدني ،

سيجوب الأزقّة .. يسألُ أمّي وإخوتي .. وسيفرحه

الخبر ، فأنا الآن عامل بِناء ، في ثيابٍ وسخة ،

بالتّأكيد سيفتّش عن أصدقاءٍ غيري ، يشاركونه

اللعب .

لن ننصرف قبل أن تغيب الشّمس ، ما أطول

النّهار ، وما أبعد المغيب !.. لن يتسنّى لي أن أرتاح ،

وألعب قليلاً مع ( سامح ) .

اللعنة على الإسمنت والحجارة ، اللعنة على

الغبار الذي أمقته ، أكاد أختنق ، رأسي انصهر من

شدّة الحرّ ، والعرق يتصبّب منّي بغزارة ، عليّ أن

أستحمّ فور عودتي .

هذا اليوم أقسى أيّام حياتي ، لم يكد أن يأذّن

العصر ، حتّى شعرتُ أنّ قوايَ خارت تماماً ، وجهي

تحوّل إلى كرةٍ ملتهبة ، محمرّة ، رأسي أشتدّ به

صُداع حادّ ، يدايَ ، قدمايَ ، ظهري ، رقبتي ،

أكتافي ، عينايَ ، كلّ خليّة في جسدي الهزيل ،

تؤلمني ، وتوجعني ، وتصرخ ، وتبكي ، وتمنّيتُ أن

أموتَ في تلك اللحظة ، أو أتحوّل إلى كلبٍ ، أو

قطّةٍ ، تذهب حيث تشاء ، تستلقي في الظلّ ..

وتغفو . وتساءلت :

ـ يا إلهي .. ألا يتعب أبي ؟!.. هل هو من

حجر ، أم من حديد ؟!.. إذاً لماذا لا يستريح ؟!..

ولو خمس دقائق فقط ، خمس دقائق يا أبي لن

تخرب الدّنيا .. شعرتُ نحوه ببعض الإشفاق ،

وبشيءٍ كبيرٍ من الغضبِ والحقد .

ـ إن كنتَ لا تهتمَّ بنفسك ، أو بعمّالك ، فأنا

تعبت ، ولم أعد قادراً على تسلّق السّلّم ، ولن أقوى

على حمل سطل الإسمنت ، أنا منهار أيّها الأب

القاسي ، هل تسمعني ؟!.. ألا تفهم !.. اعلم إذاً

بأنّني سوف أهرب .. وأترككَ مع عمّالكَ الأغبياء ،

هل باعوكَ أنفسهم ، من أجلِ بضعِ ليراتٍ ؟!.

ونمت فكرة الهرب في رأسي ، صارت تتغلغل

إلى خلايا جسدي المنهكة فتنعشها ، لكنّني سرعان

ما جفلتُ .. من فكرتي هذه ، وصرتُ أرتجف . غير

أنّ الفكرة الرائعة ، كانت قد سيطرت عليّ تماماً ،

سأهرب .. وهناك في البيت ، سوف تتشفّع لي

أمّي .. سأهرب .. وسأرجو والدي أن يعتقني من

هذه الصنعة ، وكبرت الفكرة في ذهني ، سألجأ إلى

عمّي ( قدّور ) ، أتوسّل إليه أن يساعدني ، في إقناع

أبي ، بالعدول عن قراره ، بالعمل معه ، سأعمل في

أيّ مهنة يشاء ، فقط لو يتركني أنجو من هذه

الصّنعة ، وعزمتُ أن أنفّذ الفكرة .. وتمكّنت من

الفرار ، دون أن يلحظني أحد ، فقد تظاهرتُ بأنّني

أريد التّبوّل ، ولمّا أدركتُ ، أنّني ابتعدت عن أنظار

والدي وعماله ، أطلقتُ العنانَ لقدميَّ المتعبتين .

لم أكن أدري ، أنّ أبي سيترك عمله ، ويتبعني

إلى البيت ، فور اكتشافه أمر هروبي ، فما كدّتُ

أطلب من أمّي ، أن تعدَّ لي لقمة ، ريثما أغتسل

وأغيّر ثيابي ، حتّى اقتحم أبي الدار ، والغضب

يتطاير من وجهه المغبرّ ، هجم عليَّ ، وفي يده

خرطوم ، صارخاً في هياج :

ـ هربت يا ابن الكلبة !.

يبست الكلمة في فمي ، تراجعت ، انبعث

صوتي ضعيفاً باكياً :

ـ تعبت يا أبي .. لم تعد لي قدرة على

الشّغل .

انهمرت على جسدي العاري سياط الخرطوم ،

عنيفة ، قويّة ، ملتهبة ، ودونَ أدنى شفقة ، أو

رحمة ، وانتشرت صرخاتي في كلّ الاتّجاهات ،

حادّة عالية :

ـ دخيلك يا ( يوب ) ، أبوس رجلك ..

أبوس ( صرمايتك ) .

وأسرعت أمّي نحوي ، ارتمت على أبي بضخامتها ،

وقفت حائلاً بيننا ، فما كان منه ، إلّا أن صفعها بكلّ

قوّة :

ـ ابتعدي .. من أمامي يا بقرة .

تلقّت لسعات الخرطوم ، صارخة :

ـ خير !!!.. يا ( أبو رضوان ) .. ماذا فعل

الولد ؟؟؟.

ـ ابن الكلب …هرب من الشّغل .

تابع ضربي ، ولم تنجُ أمّي من ضرباته أيضاً ، فكانت

سياطه تقع على جسدها الضّخم ، المترهّل ، بينما

وقفت أختي ( مريم ) في أقصى الزّاوية ، جزعة ،

مرعوبة ، تبكي بصمتٍ ، وترتجف ، تدفّق الدّم من

فمي بغزارة ، فارتمت أمي على قدميه ، ترجوه ،

تتضرّع له ، تتوسّل ، تتذلّل ، تبكي بجنونٍ ، وبحرقةٍ

وألمٍ :

ـ أبوس ( قندرتك ) توقّف ، عن ضربه ، الولد

انتهى .

هجم عليّ من جديد ، رفعَ يدهُ عالياً ، وهوى

بها على رأسي ، فطار الشّرر من عينيَّ ، وصرختُ

صرخةً ارتجّت لقوّتها أرجاء الغرفة ، صاحت

( مريم ) بذعرٍ شديدٍ ، وبينما كنتُ أتدحرج ، ممرّغاً

بدمائي ، شقّت أمّي ثوبها ، اندلق على الفور

نهداها الهائلان ، تناهى إلى أسماعنا ، صوت خبطات

قويّة على الباب .. رمى أبي الخرطوم ، وخرج

ليفتح .

انحنت أمّي تغسلني بدموعها ، ضمّتني إلى

صدرها العاري ، وبكت بحرقة ، وهي تدمدم :

ـ أسفي عليك يا ( رضوان ) … أسفي عليك يا

ولدي .

دخل عمي ( قدّور ) ، فأسرعت أمّي إليه باكية :

ـ دخيلك .. الولد راح من يدي .

زعقَ أبي .. متهدّج الصّوت .. وكان النّدم قد تسلّل

إلى صوته :

ـ ادخلي .. غرفتك يا مقروفة الرّقبة .. واستري

صدرك .

لكنّها لم تأبه بكلامه :

ـ الولد بحاجة إلى دكتور يا ( قدّور ) *

مصطفى الحاج حسين .
حلب .


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock