عاممقالات

زمن المماليك

كتب . د. عماد أبو غازي ” وزير الثقافه الاسبق 
من الدول المثيرة للتفكير في أمرها،
دولة المماليك في مصر، تلك الدولة المليئة بالتناقضات، فهي عصر بناء وتشييد، لكنها
في ذات الوقت عصر استبداد واستغلال، تقلبت فيها الأحوال بين انتصارات باهرة وهزائم
ماحقة، بين ثراء ورخاء وفقر ووباء
.
دولة حكم فيها عبيد أرقاء رعية يفترض
أنها من الأحرار، فما حكاية هذه الدولة؟ وكيف نشأت؟ ولماذا انهارت؟


ينقسم تاريخ دولة المماليك إلى حقبتين
أساسيتين، عصر دولة المماليك البحرية أو الأتراك، وعصر دولة المماليك البرجية أو
الجراكسة؟

نشأت دولة المماليك البحرية من قلب
الدولة الأيوبية، حيث ظهر المماليك كمجموعات من الرقيق المقاتل المجلوب من خارج
البلاد استجابة لتحدى الخطر الصليبى فى المشرق، وامتدادًا للنهج الذي سار عليه
الخلفاء العباسيون منذ العصر العباسي الثاني، ثم ترسخ وجود هذه المجموعات المقاتلة
مع الغزو المغولى للمشرق الإسلامي، فتحول المماليك إلى سادة للمجتمع، وورثوا دولة
أساتذتهم الأيوبيين بنظمها ورسومها
.

لقد ظهرت دولتهم إلى الوجود على أنقاض
الدولة الأيوبية عقب معركة المنصورة التي انتصر فيها مماليك الصالح نجم الدين أيوب
على لويس التاسع، وكان هذا الانتصار هو شهادة الميلاد للدولة الجديدة التي حملت
أعباء القضاء على الوجود الصليبي في المشرق العربي وعبء مواجهة الخطر الجديد؛ خطر
الهجمة المغولية التي انطلقت من السهوب الآسيوية لتجتاح العالم القديم كله
.


وكانت الملامح الإقطاعية قد اتضحت في
المجتمع الشرقي الإسلامي كله في مواجهة الأخطار الخارجية الداهمة التي أحاطت
بالعالم الإسلامي، ومع سيطرة المماليك منذ النشأة الأولى لهم كان لدولتهم طبيعة
عسكرية وإقطاعية، فارتبط نفوذهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالدور العسكري
الذي كانوا يقومون به
.

لقد شيد المماليك دولة إقطاعية عسكرية
نجحت في أداء مهمة تاريخية محددة؛ ألا وهي التصدى للأخطار الخارجية، والتي كانت
المبرر التاريخي لنشأة دولتهم. ومن العجيب أن تلك الدولة الإقطاعية التي تسودها
طبقة من الأرقاء المقاتلين نجحت فى تصدر المجتمع كله، وقيادته سياسيًا واجتماعيًا؛
والسيطرة على ثروته الاقتصادية
.

واحتكر المماليك القتال والأعمال
العسكرية، ولم يسمحوا للمصريين بالانخراط في صفوف الجيش حتى صار الجيش المملوكي لا
يضم أحدًا من خارج طبقة المماليك سوى بعض أبنائهم “أولاد الناس” وقليلًا
من الأعراب، وكان حمل السلاح وركوب الخيل محرمين على غير المماليك، ولم يستثن من
ذلك سوى الأعراب
.

كان الاقتصاد المصري في ذلك العصر يقوم
على دعامتين أساسيتين
:

الدعامة الأولى: الزراعة التي ظلت تشكل
العنصر الأساسي في الاقتصاد المصري طوال آلاف السنيين منذ سيطر الإنسان المصري
الأول على نهر النيل وحول المستنقعات إلى أراضي زراعية، كانت الزراعة العمل
الأساسي لأغلبية السكان، وكان القمح المحصول الرئيسي الذي تنتجه مصر، ويشكل عائد
الزراعة والضرائب المفروضة عليها المصدر الأكبر لموارد الدولة، كما تشكل الأراضي
الزراعية التي تمنح كإقطاعات لأمراء المماليك مصدر دخلهم ونفوذهم في نفس الوقت
.

الدعامة الثانية: تجارة المرور التي
كانت تعبر الأراضي المصرية، فقد أدت الحروب التي قامت في وسط آسيا إلى تحول
التجارة بين أوروﭘـا والشرق الأقصى من الطرق البرية إلى الطرق البحرية، فتأتي
التوابل والبهارات وبضائع الشرق عبر المحيط الهندي وبحر العرب إلى موانئ مصر على
البحر الأحمر ثم تنقل بالطريقين البري والنهري إلى الموانئ الشمالية على البحر
المتوسط (الإسكندرية ودمياط)، 


ومن هناك ينقلها التجار الأوروبيون ـ خاصة البنادقة
ـ بسفنهم إلى موانئ أوروبا الجنوبية، وكانت سلطنة المماليك تحصل على جزء من
مواردها من الرسوم التي تفرضها على تلك التجارة
.

أما على الصعيد الاجتماعي فقد عرف
المجتمع تفاوتًا طبقيًا واسعًا ما بين قمته وقاعدته، كما عرف تميزات على أساس
العرق والدين إلى جانب التمايزات الاقتصادية
.

كان المماليك يشكلون قمة الهرم
الاجتماعي وعلى رأسهم السلطان، وداخل طبقة المماليك كان هناك تفاوتًا كبيرًا بين
كبار الأمراء الذين يحملون رتبة “أمير مئة مقدم ألف” ويبلغ عددهم عادة
24 أميرًا، وصغار المماليك الذين يشكلون قاعدة هذه الطبقة الاجتماعية الغريبة في
تكوينها،

 وبين الفئتين نجد أمراء الأربعين وأمراء العشرات، وكانت العلاقات التي
تحكم المجتمع المملوكي علاقتي الأستاذية والخشداشية، الأولى علاقة ولاء تربط بين
الأمير المملوكي ومماليكه الذين اشتراهم ورباهم في طباق مخصصة لسكناهم بقصره، وكان
المماليك يجلبون أطفالًا صغارًا من وسط آسيا ومناطق القوقاز غالبًا، 


ويباعون في
أسواق خاصة للرقيق، ويشتريهم الأمراء ويربونهم تربية عسكرية ودينيه ليعدونهم
ليكونوا مقاتلين مسلمين عند تخرجهم من الطباق المملوكية، وبعد تخرج الأمير وتحوله
إلى مقاتل، بل حتى بعد تدرجه في سلك الإمارة تظل تربطه بسيده الأول ـ أو أستاذه
حسب مصطلح ذلك العصر ـ علاقة ولاء تسمى علاقة الأستاذية، أما الخشداشية فكانت
العلاقة التي تربط المملوك بزملائه الذين تربوا معه في نفس الطبقة في قصر سيدهم،
وكلمة خشداشية من اللفظ الفارسي خشداش وتعني أخ أو زميل، وكانت روابط الأستاذية
والخشداشية في المجتمع المملوكي أقوى من روابط الدم
.


أما أبناء المماليك فكان يطلق عليهم
مصطلح “أولاد الناس”، وربما نستطيع أن نعتبرهم يشكلون الفئة التالية
للمماليك في السلم الاجتماعي رغم أنهم لا ينتمون لطبقة المماليك بحال من الأحوال، 


وكان مصدر دخلهم الأساسي ما يحصلون عليه من “ِرِزَق” من الدولة، والرِزق
أراضي كانت الدولة تمنح حق استغلالها والاستفادة من ريعها لبعض الأفراد، كما اتجه
عدد من أولاد الناس إلى العمل في التجارة أو للدراسة الدينية والعمل في التدريس أو
الفتوى أو القضاء، كما اشتهر عدد من أولاد الناس بالكتابة التاريخية، وكان أولاد
الناس حلقة الوصل بين المماليك والمجتمع المصري، فقد كانوا يتزوجون من مصريات
.


يلي المماليك وأولادهم كبار التجار
وكان لبعضهم ثروات ضخمة، لكنهم كانوا معرضين في أي وقت لصدور قرارات من الدولة
بمصادرة ثرواتهم وأملاكهم بدعاوى مختلفة، وفي نفس المستوى الاجتماعي يمكن أن نصنف
كبار رجال الدولة من الموظفين من أرباب الأقلام، وأرباب الأقلام مصطلح يشير إلى
الموظفين المدنيين في الدولة، وكانوا عادة ذوي خلفية دراسية دينية إذا كانوا
مسلمين، وكان عدد منهم مصريين مسيحيين أو يهود، وإن كان عصر المماليك قد شهد
تراجعًا كبيرًا في أعداد كبار الموظفين الأقباط الذين ظلوا على دينهم، وإلى نفس
المستوى الاجتماعي أيضًا ينتسب كبار القضاة والعلماء ورجال الدين
.


ثم تأتي بعد ذلك الفئات الوسطى من
التجار والموظفين والعلماء، وإلى جانبهم الصناع والحرفيين، والمتعاملين مع سلطة
الدولة من أهل الريف
.
وفي أسفل السلم الاجتماعي يأتي
الفلاحون الذين يزرعون أرضهم ويقدمون الإسهام الأكبر في انتاج المجتمع بينما
يحصلون على أقل نصيب من الثروة
.


هناك فئة اجتماعية مهمة في ذلك العصر
هي العرب أو العربان كما تطلق عليهم بعض المصادر، وكانوا يعيشون على أطراف الدلتا
والوادي، وهم من سلالة الفاتحين العرب وبعض القبائل العربية الأخرى التي جاءت في
هجرات متوالية إلى مصر، وكانوا يعتقدون أنهم أحق بحكم مصر من المماليك، وكان هؤلاء
العرب يعيشون على مساعدة الدولة في الجباية وفي قمع انتفاضات الفلاحين أحيانًا،
وعلى نهب القرى وقطع الطريق أحيانًا أخرى، كما شكلوا قسمًا من احتياطي الجيش
المملوكي أثناء الحروب الكبرى
.
أما سياسيًا فكان السلطان رأس الدولة،
وقد حاول كثير من سلاطين المماليك خاصة في عصر دولتهم الأولى إقرار مبدأ وراثة
العرش، لكن معظم محاولاتهم بأت بالفشل وانتهت إلى انقلاب الأمراء على وريث العرش
والإطاحة به، وربما كانت أسرة قلاوون التي تنتسب إلى السلطان المنصور سيف الدين قلاوون
أحد أهم سلاطين مصر في ذلك العصر الاستثناء الوحيد، ورغم تولي عددا من أبناء
قلاوون وأحفاده عرش مصر فقد تعرض كثيرين منهم للعزل وانتهى عصرهم بزوال دولة
المماليك البحرية وقيام دولة المماليك الـﭽراكسة محلها
.
وكان الدور الأكبر للإدارة السياسية
للدولة في يد كبار الأمراء من العسكريين، مع مساهمة من بعض كبار الموظفيين من
المدنيين وكبار الفقهاء، لكن الكلمة الحاسمة عادة كانت بيد السلطان وكبار الأمراء
.
وكانت الشرعية السياسية والدينية
للدولة مستمدة من الخلافة العباسية التي قام السلطان الظاهر بيبرس بإحيائها في
القاهرة بعد سقوطها في بغداد على يد المغول، فقد جلب بيبرس أحد أفراد البيت
العباسي ونصبه خليفة بالقاهرة في محاولة لإضفاء الشرعية على دولة المماليك، وكان
الخليفة العباسي بالقاهرة منزوع السلطات دوره الوحيد أن يصدر مرسومًا بتقليد
السلطان وتفويضه بسلطات الخليفة أو الإمام
.

أما على الصعيد الأقليمي، فقد قامت السياسة الخارجية للماليك على نسج
تحالفات مع عدد من الدول الإسلامية واستندت تلك التحالفات على موازين القوة في
المنطقة، كما أقامت تحالفات أخرى مع بعض الدول الأوروبية خاصة المدن التجارية
الإيطالية، مستندة إلى المصالح التجارية المشتركة للطرفين؛ فعندما قامت دولة
المماليك البحرية أصبحت خلال سنوات القوة الأولى في منطقة المشرق العربي
.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock