مقالات

الروح والنفس والجسد

من منظور الأديان والفلسفات 

بقلم الكاتب : علي جنيدي 

تختلف الأديان والفلسفات فى تعريف الروح ولكن هناك اتفاق على أن الروح كائن مستقل بذاته غير مدرك بالحواس. والروح هى سر من أسرار الله وقد عبر القرآن عن ذلك بوضوح عندما قال الله:{قل الروح من أمر ربى} فليس لأحد أن يُحيط بأسرار الروح سوى خالقها وهناك إجماع في المسيحية على أن الوصول للمعرفة الحقيقية عن ماهية الروح هو أمر مستحيل. يرى البعض أن الروح هى أساس الإدراك والوعي والشعور فهى كالكهرباء أو البطارية لجهاز ما فوجودها يكون سببا فى عمل باقى الأعضاء وذهابها يعنى توقف سائر الأعضاء وبهذا المفهوم يمكننا أن نسميها “سر الحياة”.
لايوجد في التوراة تعريف دقيق لكلمة الروح ويذكر سفر التكوين أن الله خلق الإنسان من غبار الأرض ونفخ فى أنفه ليصبح مخلوقا حيا كما جاء فى الكتاب:” وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أنفه نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً” التكوين ٢:٧. وهذا يتوافق مع القرآن الكريم حيث يقول الله:{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) ص. ويتكلم علماء اليهود عن ثلاثة أشياء: نفيش”Nefesh” وهي الطبقة السفلى من الروح وتربط بغرائز الإنسان الجسدية وتوجد من لحظة الولادة وهذه الكلمة هى أقرب إلى كلمة”نفس” ومدلولها بالعربية، وروخ “Ruach” وهي الطبقة الوسطى من الروح والمسؤولة عن التمييز بين الخير والشر وتنظيم المبادئ الأخلاقية وهى أقرب إلى كلمة “الروح” العربية، ونيشامه “Neshamah” وهي الطبقة العليا من الروح وهي المسؤولة عن تميز الإنسان من بقية الكائنات الحية وهى قريبة أيضا من كلمة”نسمة”. وهناك تشابه كبير بين هذا التقسيم وتقسيم سيجمَند فرويد الذي قسمه إلى الأنا السفلى والأنا والأنا العليا.

ينسب الموت دائما إلى النفس فى القرآن الكريم، يقول الله جل ثناؤه:{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) آل عمران. و”ذائقة”من الذوق، وهذا مما لا مَحِيص عنه للإنسان، ولا محيد عنه لحيوان.
والنفس لا تذوق الموت سوى الموتة الأولى كما يقول الله:{ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) الدخان.وهذه دعوة من الله تحذير أيضا من سوء العاقبة لأن الله قد أعطى الإنسان فرصة واحدة ليزرع فيها وفى الآخرة يحصد ما زرع وليس هناك فرصة للعودة إلى الحياة الدنيا مرة أخرى، يقول جل ثناؤه:{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)السجدة.

الإنسان إذا هو عبارة عن الجسد”Corpus” وهو ذلك الصندوق المادى الذى صنعه الله بقدرته للإنسان الأول وهو الذى تحل فيه الروح ويجسِّد هذا الجسد النفس فهو محل أفعالها وتصرفاتها على الأرض وعند الموت يعود مرة أخرى بما فيه من عناصر كيميائية إلى الأرض التى خُلق منها.
أما الروح”soul ” فهى من أمر الله فهى لانهائية خالدة أبداً ولا يسرى عليها الموت إطلاقاً ولا تنطبق عليها أية قوانين من أى نوع وليست محل ثواب أو عقاب ولأنها لانهائية لنسبتها مباشرة للخالق العظيم.
والموت “Death ” يختلف عن الوفاة فالموت هو فقدان الحياة على الأرض ولكن ليس معنى هذا أن الموت هو الفناء”Annihilation ” ولكنه انتقال “Departure ” من حياة إلى حياة أخرى أو هو الرحيل من التواجد فى الكون المادى المنظور بقوانينه المعروفة إلى عالم آخر من حولنا بقوانين ما فوق المادة، قوانين مختلفة وهذه القوانين والأبعاد والأزمنة هى التى تمثل ما يُسمى بالبرزخ “Isthmus ” أى الفاصل بين عالمين متماثلين، يقول جل ثناؤه :{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)المؤمنون، المراد بالآية أن بينهم وبين الدنيا حاجزاً يمنعهم من الرجوع إليها إلى يوم القيامة ومعلوم أنه لا رجوع بعد القيامة ففيه تأكيد لعدم رجوعهم وإيآس لهم من الرجوع إليها من أصله.

أما الوفاة”Decease ” فتعنى انفصال الروح عن الجسد المادى أثناء النوم، ولنقرأ قول الله تعالى:{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) الزمر،المقصود من الآية أنه تعالى يتوفى الأنفس عند الموت وعند النوم إلا أنه يمسك الأنفس التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى وهي النائمة إلى أجل مسمى أي إلى وقت ضربه لموتها فقوله تعالى: { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } يعني أنه تعالى يتوفى الأنفس التي يتوفاها عند الموت يمسكها ولا يردها إلى البدن وقوله: { وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني أن النفس التي يتوفاها عند النوم يردها إلى البدن عند اليقظة وتبقى هذه الحالة إلى أجل مسمى، وذلك الأجل هو وقت الموت فهذا تفسير لفظ الآية وهي مطابقة للحقيقة. النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء وهو الحياة، فنقول إنه في وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر هذا البدن وعن باطنه وذلك هو الموت أى انفصال الروح انفصال كلى عن الجسد وذهابها إلى خالقها، وأما في وقت النوم فإنه ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن من بعض الوجوه ولا ينقطع ضوؤه عن باطن البدن، فثبت أن الموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام كامل والنوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه، وإذا ثبت هذا ظهر أن القادر العالم الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه أحدها: أن يقع ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه وذلك اليقظة وثانيها: أن يرتفع ضوء النفس عن ظاهر البدن من بعض الوجوه دون باطنه وذلك هو النوم وثالثها: أن يرتفع ضوء النفس عن البدن بالكلية وهو الموت فثبت أن الموت والنوم يشتركان في كون كل واحد منهما توفياً للنفس “الروح”، ثم يمتاز أحدهما عن الآخر بخواص معينة في صفات معينة، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم، وهو المراد من قوله:{ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
فى هذه الآية نفهم أن هناك نفسان النفس الأولى التى يتوفاها الله حين موتها هى الروح وهي النفس التي تكون معها الحياة والحركة، والنفس الثانية والتي لم تمت في منامها، هي نفس التمييز لا نفس الحياة؛ لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس. ورووا عن ابن عباس رضي الله عنهما: في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز والروح التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه فالنوم أشبه بالغيبوبة أو التخدير وقد يجد البعض أن واقعة انفصال النفس عن الجسد غير منطقية حيث يجد المرء نفسه وهى تنظر إلى جسده المادى من كان آخر . ولكن أثبتتها الأحداث والخبرات لهؤلاء الذين كانوا على {حافة الموت} وقرر الأطباء أنهم {ماتوا} فعلاً ثم عادوا إلى الحياة مرة آخرى .

ولكن علينا أن نفهم أن الروح لا تنفصل أبداً عن الجسد انفصالا كاملا إلا فى حالتين: بالموت أو فساد ونقض للجسد “Cassation” فهى التى تعطيه نبض الحياة وتجعل أجهزته الداخلية المختلفة تعمل بطريقة آلية منتظمة فى أثناء نومه أو غيبوبته طبقاً لنظام الجهاز العصبى المستقل الذاتى برغم أن النفس قد لا تكون متواجدة فى ذالك الوقت وإنما تكون فى حالة سبحاحة لنقُل سباحة روحية ولعل هذا يفسر لنا أننا أحيانا نسمع صوتا فى منامنا ولا نستطيع أن نتكلم أو نرد عليه وكذلك نتعرض لحلم مزعج ونحاول القيام أو الجرى ولا نستطيع وذلك لأن الروح فى حالة سباحة خارج الجسد، فالوفاة انفصال مؤقت بين النفس والجسد ـ كما تعنى لغوياً الممات بعد أن يستوفى المرء أجله ـ والموت انفصال دائم بينهما. أما بالنسبة لنقض الجسد “cassation” الذى بنقضه تموت النفس فيُعد من أكبر الجرائم التى حرمها الله لأن النفس نيان الله فهو الذي برأها وأنشأها وهو الذى سواها وزكاها، وهو الذي ركَّبها ذاك التركيب البديع، ويُشير القرآن الكريم إلى ذلك حين يقول:{ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) الانفطار. وجاء فى الحديث:”إن هذا الإنسان بنيانُ الله، ملعونٌ مَن هدم بنيانه”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock