مقالات

حبيس الأضلاع

سأحكي لكم شيئًا عجبًا ظلّ حبيس الأضلاع ثلاث سنين، ثمّ رأيت أنه توجّب عليّ بثُّه.

 ذكرت – غير مرة – أنني فقدتُ مالي كله قبل أربع سنوات بعد خمسة عشر عامًا من الاغتراب عن الديار والعمل المضني في مسارب الحياة.

بعد الحدث عشت فترة ألم كبيرة لا تكاد تُوصف، حتّىٰ كدت أن أموت من الغمّ، وكنت أنتظر جلطة في أي لحظة من اللحظات، فقد كنت في هذا العام – تحديدًا – قد عزمت أمري على إنهاء الغربة، واتخذتُ قرار الاستقرار بمصر؛ لأقوم ببعض حق والديّ حفظهما الله؛ وحيث أنني ابنهما الوحيد على أخوات بنات، وعقدت العزم على التفرغ الكامل للمسار العلمي؛ فقد حرفني عنه الضرب في مناكب الأرض، فكان هذا مما يزيد همي وغمي؛ لأن فقد المال لا يعني إلا أن تبدأ من الصفر من جديد، وبهذا تكون خمسة عشر عاما من الكدّ والكدح خلف الدنيا = جهد ضائع وقبض ريح.

 ما لا يعلمه كثيرون أنني لم أفقد مالي فحسب، بل كنت قد تكفّلتُ بضمان مال آخر لصديق لم يكن يعرف الرجل الذي كنت أستثمر معه، ورغم أنه التقاه، لكنه أصرّ أن أكون الضامن، ولأن ثقتي في صاحبنا المستثمر لا حدود لها فقد كان صديق عمر ويُنسب إلى الديانة والأدب وعراقة الأصل، فلم أر بأسا من هذا الضمان الكتابي، فلما حدث ما حدث = صار المال مالين، والمصيبة مصيبتين، أما مالي فلا حيلة فيه إلا الصبر الجميل وانتظار الفرج بأوبة الشارد، وأما مال غيري الذي ضمنته متكرِّمًا فلا صبر لصاحبه، فقد تنكّر الصديق لي، وتحوّل مذ سمع الخبر إلى وحش كاسر يطالب بماله، وهو يعلم علم اليقين أنه ليس في حوزتي، فقد شهد بنفسه تسليم المال للرجل، والعجيب أنه قد غنم من خلال هذه الشراكة مرارا بما يفوق أصل رأس ماله، ومع ذلك تنصّل من كل ذلك، وأزّه شيطانه أن يُشهر في وجهي سيف التقاضي بورقة كانت معه، وهو يعلم أني مصاب مكلوم كمثله بل أكثر؛ فلقد كان مالي الذي ضاع أكثر من ماله هذا ثلاثة أضعاف.

ولكن هذه هي عادة الناس عند حلول المصائب يقفزون من السفينة الغارقة، ويتبرأ بعضهم من بعضهم، وينقلب بعضهم على بعض، ويلعن بعضهم بعضا.

 وكنت قد بثتت شيئا مما أجد هنا على الفيس، وهو مما ندمت عليه كثيرًا، لكن ماذا كنت أصنع وقد لفّني الهمّ من كل جانب، فكنت أتلمّس ثغرة ولو كحجم سَمّ الخياط لأتنفس منها، أو هو الكبت والانفجار.

بثثتُ ما نزل بي عدّة أيام، وفي مرة دخل لي على الخاص رجل من أحسن من عرفت على الغيب، وكان هذا الكريم النبيل قد تكفّل سابقًا بتكلفة عملية زراعة عضو حيوي لأحد المرضى ممن نشرت قصته، وسألني يومها كم جمعتم من المال: فذكرت مبلغا لا يتجاوز العشرة آلاف وكانت العملية تتكلف ٨٠ ألف فيما أذكر.. فقال لي : اجمعوا ما استطعتم جمعه، وما أعجزكم فأنا متكفّل بالباقي أيا كان.. ثم كان نصيبه بعد استفرغنا جهدنا في الجمع على ما أذكر حوالي ٥٧ ألف.. دفعها هو عن بكرة أبيها.

فدخل لي هذا الفاضل واستفهم مني عن الموضوع؛ فأخبرته الخبر بشأني وشأن المال الذي ضمنته، فإذا هو على نفس الحال من النبل و السخاء، رغم أنني لم ألتق به يوما في عالم الشهادة، فتكفل بالمال الذي عليّ للزميل الذي لم تثمر فيه عشرة السنين، وكان هذا المال قد تجاوز ال ٣٠٠ ألف ريال، وعبر عدة أقساط خلال عامين أنهى هذا الرجل الفاضل الذي لم ألتقه يوما هذه المعاناة التي أرهقت كاهلي حتى نسيت مصابي في مالي.. لكنني عزمت أن أكون عفيفا مع الرجل، فقدأبيت إلا أن يكون ما دفعه دينا في عنقي أسدده في حال ردّ الله إليّ مالي أو أعانني على السداد، وأما الرجل فقد تكفل بها، ولم يطلب مني بينة تثبت حقيقة الأمر، ولم يأخذ ورقة يثبت هذا الدين الذي جعلته في رقبتي، بل هي الثقة الكاملة على الغيب..

 أهذا يحدث في زماننا اليوم؟

رجل لا يعرفك ولا تعرفه إلا عبر هذه النافذة، ومن خلال تلك الحروف التي يستطيع أن يُحبِّرها أعتى المخادعين المختلين، ولا دليل يثبت دعواك إلا ما استقر في ضميره بصدقك؟

والمبلغ هائل جدا، لكن الرجل أعطى الكلمة ووفّىٰ بها في ظل ظروف اقتصادية عاتية على الجميع، أصابت الدول، ورجال الأعمال، والشركات، وجميع الفئات.

أي نبل هذا وأي نفسية تلك؟

 كثيرا ما تجتر ذاكرتي ما حدث فأقف أمامه مشدوها فاغرا فمي وأقول: هل أنا في رؤيا لذيذة أم هو واقع؟

أقف هنا ما بين ثلاثة رجال:

 رجل أعطيته مالي ليتّجر فيه سنين عددا، وكان فيها الصديق اللصيق الوثيق، ثم أخذها واختفى؛ ليضرب المثل في كل شيء قبيح، وكأن الدين الذي آمن به قد اختفى معه.

 ورجل كنتُ له الصديق والأمين والمستشار، وجريرتي معه أنني ضمنتُ صدق الرجل الأول وعدالته، وقد كان كذلك طيلة سنين، ثم آثر أن يبيعني بثمن بخس رغم علمه ببراءتي من أجل لعاعة الدنيا؛ ضاربًا عُرض الحائط بكل صلة ووشيجة!

 وثالث لا يعرفك إلا من حروف يرى فيك الصدق ويتوسّم فيك الثقة والخير؛ فيمنحك صفقة يده على الغيب من غير لقيا ولا عشرة…

 تلك نماذج ثلاثة.. لكن النموذج الثالث عجب العجب،

عن واقعة حقيقية لا يزال أصحابها يعيشون بيننا ولى كل الشرف فى معرفة الثالث فقط وأعرف ان الأول والثانى كلاهما سيقرأ ما اكتبه ولا يعنينى غضبهما فما فعلاه يندى له الجبين من خزى افعالهما

كامل رجب مرسى/ابو يوسف

٢/٨٢٠٢١

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock