شعر وحكايات

قراءة الباحثة ليندا الحجازي .. الجامعة اللبنانية

في إنشائية اللا مكتمل الصوري لتأسيس المكتمل بالنص الوجيز..

نص شذري للشاعر أ. حمد حاجي نموذجا..

==النص ==

وَرَكَّبتُ قطعةَ زُبْدٍ عَلى تَمرَةٍ ثم نَاوَلتُها طَرَفيْ أُنْمُلي لعَقا

تغايرتُ من كُمِّ ثوبٍ يُلامِسُ وجْنَتَها وتُداعِبُ أزرارُه العُنُقا

كأنّه يَفضٓحُني -أحمر الشفتين- إذا قبّلَتْني تنَاثَر والتصقا

وحين أفارقها وأعود كأنّي عَصًا في ثيابٍ وكلّي بها علقا!

ا===============

مقدمة

ا======

لو جاز لنا ان نقول أن إنشائية التجربة الشعرية هي تلك الرؤية الجمالية التي تحمل للمتلقي عبر لغة الخطاب الرمزي والفكري نظرة ما مخصوصة للعالم الموضوعي والمتخيل ..

فإنه بالوقت نفسه تدعونا نظرية الرمز الى الكشف عن التعدد والتنوع في رمزية الظاهرة الفنية الاستعارية (من مثل دواعي استعمال الرمز او تراسل الحواس)..

مما يضمن لنا بالبحث في توسيع نظرية الدلالة ، ولا نكتفي فيها بمقومات المعنى الصوري فحسب، بل المعنى «اللا صوري/ الإيحائي)، كما ذهب الى ذلك (بول ريكور في نظرية التأويل).

مما يجعلنا نطرح ما يمكن الاجابة عنه..

بالمطلق كيف ينشأ موضوع النظر بين الذات والعالم، بما يجعل منه عملًا فنيًا بالنص الوجيز نموذجا تراسل الحواس؟

كيف تمكن الشاعر من صوغ تجربته الفنية من كونها فكرة مجردة ( الرمز ) ليصير لها وجودٌ أمام عين القارئ الباصرة؟

ا==========

أولا: الرمز وتراسل الحواس وأبعادهما في إنشائية التجربة الشعرية

ا==========

               قراءة نقدية الباحثة ليندا الحجازي
تصدير
“ليس أسوء من العمى سوى أن تكون الوحيد الذي يبصر”..
سراماغو..

1- ﺗﺮﺍﺳﻞ الحواس:

قد يبدو للوهلة الاولى انه بتراسل الحواس يصبح للون طعم وللصوت رائحة وللشم لذة..كما لو كانت الصورة عند ذاك ايحائية كما يذهب غنيمي هلال بقوله: ” حيث تعطي المسموعات ألواناً وتصير المشمومات أنغاماً وتصبح المرئيات عاطرة”(1)

نص فنّي يحقّق دهشة الشّعر ويشتغل على الصورة ﺍﻟﺸﻌﺮﻳﺔ حين تتبادل ﻣﺪﺭﻛﺎﺕ الحواس وتتجرد المحسوسات مما تتصف به من صفاتها المعروفة سواء أكانت حسية أو مادية، لتتحول باللغة إلى مشاعر وأحاسيس، اذ أن غاية التوسع في العاطفة والخيال انما هو ليخلق الشاعر من صورة اللغة ﺻﻮﺭﺓ مميزة ﻭﻣﺆﺛﺮﺓ ﻹﺛﺎﺭﺓ ﺍﻟﺪﻫﺸﺔ.. متجاوز بذلك مسألة النحو والقواعد والدال والمدلول لتتحول إلى لغة العواطف والاحاسيس والمشاعر..

انظر الشاعر المبدع حمد حاجي.. في عالم العشق والشعور العميق، يتجلى بكل أناقة وإبداع.

قام برسم لوحة من الأحاسيس والعواطف تراقصت فيها كلماته على وتر العشق.

كيف لقطعة الزبد التي تزيّن تمرتها، أن تصبح زاوية نظر وموقف تتراسل فيها الحواس لحبه واهتمامه بالتفاصيل الصغيرة، حيث يتحدى الزمن والمكان ليقدم لحبيبته لحظة جميلة.

يقول الشاعر:

نَاوَلتُها طَرَفيْ أُنْمُلي لعَقا..

هكذا ينمي الشاعر الصورة الشعرية عن طريق التبادل بين مدركات الحواس..

(حاسة اللمس تتحول الى التذوق)..

إيحاءات اللمس والرغبة تختبئ خلف كلمات الشاعر، حيث يقترب من هذه الجوانب المحظورة بأناقة فائقة. تتمايل الكلمات كأوراق خريفية تلامس الجلد بلطف، وتشعل شرارة الشهوة .

موسيقى الحب والشغف التي تعزفها أنامل الشاعر في كل بيت، تكشف لنا عن عوالم مختلفة تتبادل فيها الحواس مدركاتها ثم تؤثثها التجربة الشعرية من خلال استدعاء العواطف المتنوعة، فتظهر للمتلقي صورا مرئية تنساب الكلمات كأنها أنغام عاشقة تجذبنا إلى دوامة الحب.

ويضيف الشاعر قائلا:

(كأنّه يَفضٓحُني -أحمر الشفتين- إذا قبّلَتْني تنَاثَر والتصقا..)

نلاحظ هنا “الاشتباك الحواسي” المار إلى “الحس المتزامن”..

يبدو التركيب رهيبا متحولا متحركا.. (حاسة السمع ..(الافتضاح) تتحول الى حاسة البصر

وبنفس الوقت حاسة البصر تتحول إلى اللمس ثم الى الشم كالورد المتناثر)..

هكذا يمزج الشاعر بين الجمال والإثارة بأسلوب استثنائي، ويأخذنا في رحلة عاطفية عبر عوالم العشق حيث يلتقي الكلام بحواس الصمت بأسلوب مفعم بالرقة والعمق.

فالحبيبة تتجسد كظل يمر بوجده،تصبح شفتاها وجهته الوحيدة، ومسكنًا لكل مشاعره، وبينما يندمجان في لحظات اللقاء، يبدو وكأن الزمن يتوقف.

وفي غمرة هذا الحب، يتجرد الشاعر من كل شيء ويسلم نفسه بكل كيانه لحبيبته. يترك أنفاسه وأفكاره وعواطفه وحواسه تختفي في عالمها، تاركًا كلّه لها حيث يصل إلى مرتبة الإتّحاد الكليّ معها، فهو موجود حيث هي تكون. رحلة سحرية حسية إلى عمق العشق والهوس.

هكذا بانشائية الصور، لا يقف الشاعر عند حدود المفردات الحسية.. وإنما يبادر بإضافة بلاغية للمعنى جديدة..

ا========

                         قراءة نقدية الباحثة ليندا الحجازي

2- الرمز

ا======

لو نستفيد من تعريف مؤلفي نظرية الأدب للرمز، بما هو “موضوع يشير إلى موضوع آخر. لكن فيه ما يؤهّله لأن يتطلب الانتباه إليه لذاته ، كشيء معروض”..(1) أمكن لنا ادراكه بالقصيد من خلال الاشارة الى مهمته بأن يكتفي الكاتب بالتلميح إلى الأشياء.. دون السقوط في المجانية أو الاعتباطية في طرح رموزه..

لمّح الكاتب دون ان يذكر إلى المكان (اين سيصنع زبدا على تمرٍ (ورَكَّبتُ قطعةَ زُبْدٍ عَلى تَمرَةٍ )وغيّب الزمان بغاية أن يوثق حين استدعاء رموزه الصلة بین الذَّات (ذات الشَّاعر ضمير الأنا ) وأشیاء المطبخ والعالم والكون المحیط به ( الامكنة مطبخ/ مرآة الزينة لاحمر الشفتين.. وغیره) بغاية توليد العواطف ومجمل المشاعر عن طریق الإثارة النَّفسیة لقارئه مما يضفي شاعریَّة مستحدثة ( الحب– الوفاء- الاخلاص- الولاء- كم من المشاعر الفياضة) وعن طریق الاخفاء او الاظهار او عدم التَّسمیة والتَّصریح الواضحین. وكذلك من خلال استدعاء الأنا والآخر في محاولة لقراءة الواقع واليومي.

نلاحظ أن واقع الحال الآني يحضر كما لو كان رمزا نراه يقول:

(تغايرتُ من كُمِّ ثوبٍ يُلامِسُ وجْنَتَها وتُداعِبُ أزرارُه العُنُقا)

يرسم الكاتب لوحة اليد التي تمتد الى ثغر الحبيبة والترميز الى معنى الغيرة من خلال الاحتكاك بطريقة تصير الكتابة بالرمز رسما والرسم كتابة.. اذ «الكتابة و الرسم هما نفس الشيء»

كما أشار مرة الناقد التشكيلي jorn في نصّ له بأن «الصورة مكتوبة والكتابة تكوّن صورًا….وبإمكاننا القول أنه توجد كتابة، غرافولوجيا في كل صورة كذلك ففي كل كتابة توجد صورة»..

ومع كل لمسة عاطفية تلامس شفتيها يستدعي الشاعر رمزا ، ينقل شوقه وحبه العميق، وهي ترد بحنان واشتياق.

وهكذا يجسد الشاعر عبقريته في رسم صور العشق والشوق التي تتأرجح بين سحابتيّ العاطفة والإثارة..

ونجده ايضا يقول:

( إذا قبّلَتْني تنَاثَر والتصقا..

وحين أفارقها وأعود كأنّي عَصًا في ثيابٍ وكلّي بها علقا!)

يتألّق الشاعر ببريقه الخاص، وهذه المشاعر العميقة والغامرة.. لينفتح قلبه كزهرة في أوج ازدهارها، وتزهر أنواع العواطف في داخله من خلال تبادل وظيفي للحواس.

انظر نجد الألفاظ تتنفس بأنفاس الجمال والمشاعر الخفية. ترتقي الكلمات إلى آفاق أعمق، تمزج بين العاطفة والإثارة بلوحة شعرية ساحرة.. ثم تنتهي على دراما الفراق والوداع..

لذلك فإن قوة الأديب لا تكمن في قدرته على أن يصف الواقع بل كل القدرة في التعبير عن ذلك الواقع وتشخيصه باختيار مميز لرمزه.. ان يلجأ الكاتب الى الرمز الذي يذكر بما هو إنساني وما هو مسترك بشري والحب طرف منه ويجعل كل من يقرأه يصرخ “أن هذا حدث لي”.. او “إن هذا النص يتحدث عني!”

ا======

خاتمة

ا======

هكذا تبين لنا ان مجرد التعبير الاستعاري الباحث في تراسل الحواس وفي كينونة ووجود الإنسان وتحولات محيطه وعالمه قد أبرز لنا عواطف المتلقي وجلّي للقارئ تلك النفسية، وجعل المتلقي يقف بزاوية ليتلذذ المشهد ..

ومنه نشوئية موضوع النظر بين الذات والعالم، وارتقاء النص لأن يكون عملًا فنيًا بالنص الوجيز نموذجه تراسل الحواس…

وهكذا عشنا مع النص الحالة التي يمكن وصفها بالهذيانية على حد قول (فرويد) : «ينسحب الفنان كالعصابي، من واقع لا يرضى الى دنيا الخيال هذه، ولكنه خلاف العصابي يعرف كيف يقفل منه راجعا ليجد مقاما راسخا في الواقع».

اما فيما يتعلق بتجلي استعمال الرمز الوجودي الذي توسط بين إمكانيات التأويل لعناصر الموضوع كاستعارة وذات المبدع الذي جعل قارئه ينخرط معه بالتجربة الإبداعية..

فإن الشاعر قد تمكن من صوغ تجربته الفنية من كونها فكرة مجردة ( الرمز ) ليصير لها وجودٌ أمام عين القارئ الباصرة..

وهو ما يبرهن كيفيات التلذذ وكان الحال بنصنا الذي على زخر بزخم الإمكانات اللا محدودة في قصيدته فتحا واغلاقا.. كما عبّر عن ذلك (ايكو).

النص الابداعي

ا=======

وَرَكَّبتُ قطعةَ زُبْدٍ عَلى تَمرَةٍ ثم نَاوَلتُها طَرَفيْ أُنْمُلي لعَقا

تغايرتُ من كُمِّ ثوبٍ يُلامِسُ وجْنَتَها وتُداعِبُ أزرارُه العُنُقا

كأنّه يَفضٓحُني -أحمر الشفتين- إذا قبّلَتْني تنَاثَر والتصقا

وحين أفارقها وأعود كأنّي عَصًا في ثيابٍ وكلّي بها علقا!

ا=======

المصادر والمراجع

ا=======

1- غنيمي هلال : النقد الادبي الحديث ،ط1 ، دار العودة ، بيروت ،1892 .ص 412 .

2- وارين وويليك: نظرية الأدب. محي الدين صبحي، مرا: د. حسام الخطيب. المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، دمشق، 1972. ص:243.‏

3- في إنشائية العمل الفني تداعيات تشكيلية: اللامكتمل تأسيس للمكتمل المسودة الرسيمة العجالة نموذجا “

د. هيبة احبيل مسعودي..

4- خليل قويعة: العمل الفني وتحولاته بين النظر والنظرية، محاولة في إنشائية النظر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،ص:302

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock